سيدة البصيرة

رجاء محمد بيطار/ لبنان
عدد المشاهدات : 59

منذ فجر الخليقة نشرت أشرعتي فوق رؤوس الكائنات.. خيمتي الزرقاء هي الأكبر، كذا أرادها خالق الأكوان، لكنّها ليست الأكثر صفاء ومحبّة وأمانا، فقد جعل في خلقه من هم أمان للعالمين، ورفع قدرهم فوق ارتفاعي، وعظّم شأنهم حتى صرت أرى نفسي أديما تحت أقدامهم مع أنّي في المكان الأسمى.. سماءٌ أنا، قرأت في أسفار التاريخ حروف القدر مذ كان الإنسان وتكوّن، ورافقت بأنظاري حياة البشر بين مدّ وجزر، ورأيت إيمانهم وكفرهم، وذلّهم وفخرهم، وخيرهم وشرّهم، وغناهم وفقرهم.. ورأيت كيدهم ومكرهم، وهزيمتهم ونصرهم، وشهدت حزنهم وسرورهم، مثلما عاينت نكرانهم وعرفانهم، رفعني الباري بناء فوق رؤوسهم، فتسنّى لي النظر إليهم عن كثب، وكان لي في حياتهم أوفى نصيب، أصفو وأتلألأ، أغيم وأربدّ حينا، أبرق وأرعد، أبتسم وأعبس، وأضحك وأبكي، وأذرف دموعا رقراقة لأروي الأرض الجدباء، لكنّي أتزلزل وأتململ ويشتدّ غضبي إذا ما غضب الخالق على عباده، فأنا مرآة سخطه ورضاه، وهل أنا إلّا بعض مخلوقاته الطائعة المنضوية تحت ظلّ إرادته المطلقة؟ وإن أنسى فلا أنسى ذاك اليوم الذي وقفت فيه شاهدة على ذلك الأمر العظيم، ذاك الحدث الجلل الذي لم أعاين مثله على كثرة ما رأيت قبله وبعده، فقد كانت صحراء (نينوى) تنبسط أمامي مسرحا لأقسى جريمة ارتكبها إنسان، وأعظم ظلم وعدوان، كان الحسين (عليه السلام) سبط نبيّ الله الخاتم (صلّى الله عليه وآله) يقف أمام الجموع الهادرة الكافرة، بثلّة قليلة طاهرة، ويقيم الحجّة والبرهان عليهم، ويقدّم نفسه وأصحابه فداء وقربانا لإحياء دين الله تعالى.. وهناك خلف أستار الخدور المنتصبة خياما خلفه، كانت امرأة لم أر مثلها في حياتي الدهرية.. تذكّرتها.. هي أخته الحوراء زينب (عليها السلام)، تلك الطاهرة التي استقبلتها قبل بضعة عقود، وليدة بيت النبوّة والإمامة، وتبسّمت أنحائي وتلألأت أرجائي وفاض معين ثنائي حين تلقّاها جدّها النبي بين ذراعيه الشريفتين، فأقام عليها مراسيم الولادة، وتوسّم في محيّاها الجميل البريء معالم النجابة والسعادة، وأطلق عليها اسمها الميمون (زينب)، لكنّ عينيه ذرفتا فجأة دمعا سخيّا، فحيّرني وأقلقني، ولم أعد أدري أنشرح وتصفو صفحتي لفرحته، أم أغيم وأتلبّد، وأمطر وأرعد لدمعته؟ ثم سمعته يشكو لوعته لابنته وبضعته: "يا فاطمة، اعلمي أنّ هذه البنت بعدي وبعدك سوف تنصبّ عليها المصائب والرزايا!"(1)، ثم أفصح عن مكنون قلبه، وحكى ما أبلغه به أمين الوحي عن ربّه ممّا تشيب له نواصي الأطفال، وتتدكدك لهوله قمم الجبال، وعلمت أنّ هذه المولودة الغالية قد أنيط بها همّ وغمّ لا يدانيهما همّ وغمّ، فهي ستشهد مصارع أحبّتها واحدا واحدا، وستقف على تلّتها تراقب ما يفعله أوباش التاريخ بعظمائه، وجند الشيطان بأولياء الرحمن، وستكون شاهدة مثلي على ذلك الخطب المروّع الذي تطبق له آفاق الزمان، لكنّها ستكون أعظم منّي وأقوى، وأكثر قدرة على تحمّل البلوى.. أذهلتني الحقيقة، فمع أنّي شهدت كلّ أحداث التاريخ المريرة، وكان لي مع كلّ نبيّ ووليّ قصّة وسيرة، لكنّ الله قد جعل في بني البشر وبنات حواء تحديدا، سيّدة عظيمة البصيرة، لا تدانيها في الصبر أعماقي، وتقف أمامها أحداقي الملأى بالخير، لكنّها دون عطائها قصيرة. أقف أمامها إجلالا، وتنحني لسمائها قبّتي الكسيرة، أنظر من بين دموعي التي أمطرتها دما عند تلك الظهيرة، فأراها تقف بين أشلاء أحبّتها، تربط على فؤاد مصيبتها بعزم شكيمتها، وترمق جثمان سيّد شهداء البشر أجمعين من الأولين والآخرين بعين بصيرتها، وتمدّ تحته كفّ أخوّتها، وترفع نظرتها المتغلغلة في سويداء عزيمتها، وتنطق بلسان وديعتها صبرا وحكمة لا يدانيهما إلّا صبر أئمتها، وتقول بملء قناعتها: "اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان!"(2). إلهي، يا من يعلم السرّ وأخفى، ويدرك ما تكتنزه أعماقي وأعماق الأرض من حيث لا ندريه، لقد شهدت مولد هذه العظيمة، وسمعت من كلام نبيّك فيها ما تدريه، لكنّي لم أدرك حقيقة ما كان يعنيه، حتى عاينت موقفها فوق تلك الأرض، ورحلة سبيها ما بين طول وعرض، ورأيت كيف ينتصر الدم على السيف، وكيف يتخلّد الشهيد بموته وارتقائه، وكيف تكون المرأة الكاملة حين تحمل لواء الكرامة لتصوغ تاريخ الإمامة، وتحيي دين جدّها بصبرها اللامتناهي وشجاعتها التي فاقت حدّها، فتكمل بمسيرتها مسيرة شهيدها، وتروي بصبرها الجميل شجرة الإمامة الطيّبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، فتثمر شهيّ الثمر على وقع ذاك القدر الذي ترجمته سيّدة الصبر بوعدها المنتصر: "ما رأيت إلّا جميلا"(3). ................................... (1) السيّدة زينب (عليها السلام) رائدة الجهاد، الشيخ القرشي: ص3. (2) حياة الإمام الحسين (عليه السلام)، الشيخ القرشي: ج2، ص301. (3) بحار الأنوار: ج45، ص116.