شهيد اليقين

زينب عبد الله العارضي/ النجف الأشرف
عدد المشاهدات : 18

في قلب معركة (الجمل) هناك الكثير من المشاهد الزاخرة بالدروس والعبر لكلّ من تفكّر وتأمّل، ففي زمن الفتن حيث اختلط الأمر على من فقد البصيرة، وجعله متخبّطا في أودية الضلال والحيرة، نقرأ سير من نذروا أنفسهم للإسلام بعد أن نهلوا من ينابيعه المباركة، وتزوّدوا من عطاياه النيّرة. نخبة صالحة أرخصت أرواحها فداء للحقّ وأهله، وتمسّكت بعرى القرآن وعدله، لم تنخدع بأباطيل الطغاة، ولم تحد عن سفينة النجاة، ولم تستوحش طريق الحقّ لقلّة سالكيه، فثبتت عليه، وقدّمت كلّ ما عندها ابتغاء وجه الله تعالى، وأملا في الزلفة لديه. هناك في معركة (الجمل) حيث اختلطت عتمة الباطل بالحقّ الجلّي، سال دم زكيّ أوجع قلب المرتضى عليّ (عليه السلام). رجل آتاه الله تعالى ما لم يؤت غيره من الصالحين، وخصّه بشرف عظيم لم يمنح إلّا للقلّة من عباده، جبلٌ أشمّ حمل في معركة (الجمل) الراية، وبرهن بمواقفه على مودّته الخالصة لإمام الحقّ والهداية، حتى سقط على الرمضاء وقد أعياه نزف الدم في نصرة سيّد الأوصياء، فأتى أمير المؤمنين (عليه السلام) إليه وهو في آخر أنفاسه، جلس عند رأسه قائلا: "رحمك الله يا زيد، قد كنت خفيف المؤونة، عظيم المعونة"، وأجاب القائد المجروح بصوته المبحوح: "وأنت فجزاك الله خيرا يا أمير المؤمنين، فو الله ما علمتك إلّا بالله عليما، وفي أمّ الكتاب عليّا حكيما، وأنّ الله في صدرك لعظيم، والله ما قاتلت معك على جهالة، ولكنّي سمعت أمّ سلمة زوج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) تقول: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: "من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله"، فكرهت والله أن أخذلك فيخذلني الله"(1). فأيّ حروف الهجاء تستطيع أن تصف عظمة هؤلاء، وتحكي عن سرّ الثبات والوفاء؟ بأيّ لسان أصف سيّدي (زيد بن صوحان) عليه رضوان المنّان؟ وهل يمكنني أن أقف على ضفّة حياته؛ لأتأمّل آخر كلماته المفعمة بالوعي والإيمان؟ والحقيقة لكلّ من قرأ التاريخ وفقه قصّة صراع الإنسان مع الشيطان تقول: إنّ هذا ليس حوارا على حافّة الموت، بل مرآة من نور تظهر جوهر الولاء، وصفاء اليقين، وبصيرة القلب الذي لا يتزلزل عند احتدام الصراع بين الحقّ والباطل. سيّدي (زيد) بدمه الزكي ورمقه الأخير كتب آخر سطر من حديث الغدير؛ ليعلّمنا جميعا ما معنى أن نموت ونحن نقبض على الجمر، ونحرس عهدنا لإمام زماننا بالروح، ونفديه بدم النحر. ........................................ (1) الاختصاص للشيخ المفيد: ص79.