رياض الزهراء العدد 224 تاج الأصحاء
التقييم الذاتي السلبي: مهارة الامتناع عنه طريق نحو السلام النفسي
حين يهدأ العالم من حولنا، يعلو صوت داخلي لا يسمعه سوانا، صوت لا يكلّ عن التذكير بما لم ننجزه، وبما لم نحسنه، وبما لم نكن عليه مثلما ينبغي، وقد يبدو هذا الصوت في ظاهره حرصا على التطوير، لكنّه في جوهره جلد مستتر للذات وتقييم قاس. إنّ التقييم الذاتي ممارسة طبيعية، بل ضرورية لكنّ التقييم الذاتي حين يتحوّل إلى نمط دائم من النقد القاسي، والمقارنة المستمرّة، والتقليل من الذات، يصبح عبئا نفسيا يسرق الطمأنينة، ويشوّه علاقة الفرد بنفسه، وهذا النمط لا يظهر فجأة، بل يتسلّل إلى النفس عبر مسارات خفيّة تبدأ في الغالب في مرحلة الطفولة حين يربط حبّ الطفل بإنجازه، وتقاس قيمته بالطاعة، فينشأ على قناعة بأنّ عليه أن يكون مثلما يريد الأهل له أن يكون، لا مثلما هو عليه، فيراقب قيمته بعين الآخرين، ويخشى من ارتكاب الخطأ خشية فقدان القبول، ويتحمّل مسؤوليات تفوق عمره، وتتراكم هذه الرسائل لاحقا في المدرسة، وفي بعض البيئات التي تكرّس ثقافة المقارنة، كوسائل التواصل الاجتماعي التي تجمّل الحياة وتضخّم الفجوة بين الواقع والخيال، وتزداد حدّة التقييم الذاتي لدى الأفراد ذوي الحسّاسية العالية، أو الميل إلى الكمال، أي من يسعون إلى تحقيق الكمال في شؤونهم كافة، أو ممّن مرّوا بتجارب مؤلمة جعلتهم يشكّون في استحقاقهم للحبّ أو النجاح. لا يقوم جميع الأفراد بالتقييم الذاتي السلبي بالدرجة أو الشكل ذاتهما، إذ يتأثّر هذا النمط بعدّة عوامل متداخلة، منها: 1- البيئة الأسرية المبكّرة: حين ينشأ الطفل في بيئة تربط فيها المحبّة بالإنجاز، أو يكافأ الطفل فقط عند الطاعة أو السلوك المثالي، يتعلّم أنّ قيمته مشروطة، أمّا في البيئات التي تعدّ الخطأ جزءا من عملية التربية، وتمنح الطفل قبولا غير مشروط، فإنّ الطفل يطوّر حديثا داخليا مع نفسه أكثر رحمة ولطفا. 2- السمات الشخصية الفردية: بعض الأفراد لديهم ميل فطري أو مكتسب إلى الكمالية أو لديهم حسّاسية مفرطة، ما يجعلهم أكثر عرضة لتضخيم الأخطاء وتحليل المواقف بتفصيل مفرط. 3- الثقة بالنفس والقلق الاجتماعي: الأفراد الذين يفتقرون إلى الثقة بالنفس أو يعانون من القلق الاجتماعي، يكونون أكثر عرضة لهذا النمط من التفكير. ويمكن التخفيف من التقييم الذاتي السلبي عبر الأساليب النفسية التي أثبتت فاعليتها في هذا السياق، منها: • الملاحظة الواعية: تبدأ رحلة التغيير بالانتباه إلى اللحظة التي يظهر فيها الصوت الداخلي الناقد، وتحديد المواقف التي يتكرّر فيها هذا النمط من التفكير من دون إصدار حكم ما بل بهدف الفهم. • إعادة صياغة الحديث الذاتي: استبدال العبارات القاسية بأخرى أكثر رحمة وواقعية، فبدلا من قول: أنا فشلت قول: أنا أتعلّم، أو أنا لست جيدا بما يكفي قول: أنا أبذل جهدي وأتطوّر تدريجيا. • طلب الدعم النفسي عند الحاجة: في بعض الحالات قد يكون التقييم الذاتي السلبي مترسّخا بعمق نتيجة تجارب مؤلمة، وهنا يكون اللجوء إلى المتخصّص النفسي خطوة مهمّة لإعادة بناء العلاقة مع الذات. • البيئة الداعمة: إحاطة النفس بعلاقات صحّية تعزّز من قبول الذات والتقدير، وتقلّل من تأثير المقارنة والنقد الخارجي، فهذه الخطوات لا تهدف إلى إلغاء التقييم الذاتي تماما، بل تحويله من أداة جلد إلى وسيلة وعي ونمو، بحيث يصبح الفرد أكثر قدرة على العيش باتّزان داخلي، وتقدير ذاته من دون شروط.