رياض الزهراء العدد 225 الحشد المقدس
عربون حب زهرائي
تجلس أم علي كل نهار على الكرسي الحجري أمام باب بيتها الطيني، تلتحف بعباءتها السوداء شاخصةً بصرها على الطريق الترابي الممتد نحو الأفق، وكلما دوى صوت محرك سيارة أو طرقت مسامعها خطوات عابر، أضاءت عيناها بانتظارٍ مألوف: انتظار ابنها الذي مضى دفاعًا عن أرض الوطن واستجابةً لفتوى المرجعية العليا. لم تفارق يدها المسبحة، ولا شفتاها التمتمات التي تتقوى بها على شدة مخاوفها وعمق أحزانها، مر جارها العجوز وألقى عليها التحية وقال: (إن شاء الله يعود ابنك بالسلامة)، أومأت بصمت، تتصدر الدموع عينيها، لكن كبرياؤها يمنعها من النزول، بقي قلبها يخفق كل دقيقة، يلاحق عربات الجنود العائدين إلى ديارهم بعد فراق الأهل والخلان. وما لبثت أن سمعت زغاريد الجارة (أم حسين)، وقد غبطتها على عودة ابنها سالمًا من لجة النار والحديد، تعالت التبريكات من أفواه الجيران، فاشتدت حسرتها، إذ خيل إليها ولدها مقبلًا عليها، فاضطرب قلبها لألمٍ لا تدري أوله من آخره، وبعد أيام جاء صديقه القديم، ابتسامة باهتة على وجهه وضحكة مكسورة في عينيه، جلس بقربها يحدثها قائلًا: كان (علي) يسبق الجميع إلى الصفوف الأولى، يحمي رفاقه كأنهم أبناؤه، لقد أثرت فيه فتوى الفداء، فأراد أن يثبت رجولته في زمنٍ عز فيه الرجال، وقل فيه الناصر، تركها وهو يحمل في صدره مئات الدعوات منها بالحفظ والستر، وحماية الرب المتعال. في صباح باكر، طرقت الباب طرقات حذرة، وكانت أم علي قد فرغت لتوها من صلاة الفجر وقلبها يردد: "إنه علي.. علي.."، فتحت الباب فإذا برسول من لواء ابنها، قدم لها حقيبة صغيرة فيها مصحف ممزق الغلاف، وكتاب يحوي مجموعة من الأدعية الذي أهدته له آخر مرة، قال بصوت مرتجف: (خالة أم علي، ابنك ترك لك أمانة) احتضنت الحقيبة، وعادت إلى مقعدها الحجري أمام الدار، كأنها تتهيأ لما هو أعظم، ولم يطل الانتظار حتى دوى الخبر صارخًا في صمت النهار: (علي استشهد) ارتدت الصدمة عليها برداء الصمت، فتحزمت بالصبر وتسلحت بالجلادة، ثم نهضت واقفة، مسحت دموعها بأطراف عباءتها، رفعت رأسها نحو السماء، وقالت بصوت ثابت: تقبله يا سيدي يا أبا عبد الله، علي ولدي التحق بركبك، لعلي عزيت بذلك أمك الزهراء البتول (عليها السلام)، تهافتت الجموع إلى البيت بين صارخ ومكروب، فيما تعالت التكبيرات والتهليلات كأن أرواح الشهداء جميعًا مرت في تلك اللحظة، تبارك رحيل (علي) إلى جنة الخلود.