وهج الخلود
في سفر المجد وعلى سطوره المتلألئة، يسطع ضياء سيدة علوية تشربت الفضائل في صغرها، وتعلمت دروس الصبر منذ نعومة أظفارها، فنسجت مواقفها بألق ثباتها وقوة إيمانها، وكتبت فصول حياتها بصلابة يقينها، ورسمت مسار جهادها بدموع خلواتها. إنها سيدتنا أم كلثوم بنت أمير المؤمنين (عليه السلام)، ربيبة بيت الوحي، مهجة الزهراء (عليها السلام) وقبس من نور المرتضى علي (صلوات الله عليه).. لبوة هاشمية فاقت الفرسان بعزمها، وتحدت الطغيان بحسن توكلها على ربها، وهزمت أشياع الضلالة بسيف بيانها وصواعق كلماتها.. إنها الغريبة التي لم تسمح لرياح غربتها العاتية أن تزلزل إيمانها، أو تطفئ وهج عزمها في نصرة إمام زمانها، كيف لا وقد اختارت أن ترحل مع سيد شباب أهل الجنة إلى أرض الشهادة بملء إرادتها وهي عارفة بما ينتظرها، وبما ستلاقيه في رحلتها، موطنة نفسها على فداء دينها ولقاء ربها، فما إن سقط شهداء كربلاء في الميدان، حتى برز الشيطان مختالًا بالنصر، مملوءًا بالزهو والفخر، فأمعن في إيذاء الأرامل واليتامى، وصفدهم بأغلال الأسر؛ ليقودهم إلى طواغيت ذلك العصر، ظنا منه أنه سينال من الحق بالجور، ويطفئ نور الرسالة بالقهر.. ولكن، هيهات.. هيهات... أنى لربيبات النبوة وسيدات خير صفوة ألا يكشفن عن زيف أهل النفاق والضلالة، وقد جئن من المدينة المنورة ليحملن ثقل الأمانة، ويكملن مسيرة النهضة ويوصلن صوت الرسالة؟! لذا فقد تفجرت الكلمات، وانهال سيل المفردات، وبين خطب الإمام السجاد (عليه السلام) وعمته أم كلثوم وأختها العقيلة زينب (عليهما السلام) رسمت تفاصيل عاقبة تلك الأمة الذليلة التي رضيت بأن تبيع دينها ودنياها وآخرتها بدنيا غيرها. لقد كانت مواقف السيدة أم كلثوم (عليها السلام) وكلماتها العظيمة في منازل الأسر تنزل كالصاعقة على رؤوس الطغاة فتحرق أحلامهم، وتفضح زيفهم، وترفع الستار عن أكاذيبهم، فتبدد كل أمنياتهم، وتفشل كل مخططاتهم، وتحيل حلاوة النصر الموهوم إلى علقم في أفواههم.. وهكذا استمرت في كفاحها حتى عادت إلى مدينة جدها، وقد آن أوان بكائها، وإبراز لوعة فؤادها، فلا عجب أن تظهر حسرتها بعد كل ما رأته في رحلتها، وما فقدته في سفرها؛ لذلك ما إن لاحت لها بيوت أهلها حتى فاضت لوعتها: مدينة جدنا لا تقبلينا فبالحسرات والأحزان جينا(1) وهكذا ودعت السيدة أم كلثوم (عليها السلام) الدنيا بعد أربعة أشهر من فاجعة كربلاء، وبقيت سيرتها خالدة نابضة بالعطاء، تذكر كل مؤمنة أن طريق الحق لا ينصر بالدموع والبكاء، بل يصان بالمواقف، وتحفظ قدسيته بالثبات على الولاء. ................................................ (1) بحار الأنوار: ج45، ص197.