فجر اليقين
من هنا يبدأ فجر التاريخ، مذ تعانقت السماء والأرض.. السيدة خديجة الكبرى (سلام الله عليها) تحتضن في أحشائها شعاعًا تكوينيًا نبويًا قدسيًا، نورًا تكون من نطفة تحمل جوهر آلاء الفردوس. إن الله سبحانه وتعالى جعل في كل جزء منها إشراقةً أزليةً، ووميضًا إلهي المنشأ، يملأ العوالم بالرحمة والبهاء. لقد كانت ولادتها حدثًا نورانيًا سماويًا عظيمًا، تكوثرت فيها روح الطهارة من قبل البدء، حيث شعت وكان شعاعها قبل تكوين كل شيء، وخلق لأجلها كل شيء، تتجلى فيها الطهارة والنقاء الفردوسي. إن السيدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) قبل تكونها في رحم السيدة خديجة (سلام الله عليها) كانت نواة لدهشة النور المعلق في ساق العرش، تزهر لأهل السماء، تسبح، فتسبح الكائنات بتسبيحها، وتقدس فتقدس بتقديسها، تنساب أنوارها فيضًا على الكون كله، بها طابت نسمات الهواء، ومن قبسها تبلج الفجر، وشع شعاع الشمس، وكل قطرة ندى تباركت بنورها. لقد حمل هذا الميلاد إشارات السماء كلها، فالنجوم تزهر، والطيور تشدو، والنسيم يهب في أرجاء البسيطة، هكذا انطلقت بضعة الرسول (صلى الله عليه وآله) منذ ولادتها تحمل في ذاتها مآثر الرسالة، فهي منبع الفضائل ومرآة الطهارة، وتجسيد الحب الإلهي في أبهى صوره وتجلياته. كل لحظة في حياتها إشراقة تهدي إلى الملكوت الأعلى، كل بسمة ودمعة معراج للروح نحو الحق المطلق، إذ تتلاقى مع الإرادة الإلهية. منها وبها تصبح الحياة رحلة كشف وتأمل في أسرار الوجود، تنساب عبرها أنوار الحكمة، وتتجلى فيها معاني الصفاء والخلود، هي هكذا في كل نفس تقود إلى الحق واليقين. منذ أول نبضة قبل البدء قدرها الله سبحانه كوثرًا لمحمد (صلى الله عليه وآله)، ينبوع الخلود وروح النبوة، خلق كيانها الطاهر متطابقًا مع الرسالة روحًا وفكرًا، لطفًا إلهيًا لا ينضب، نهرًا يفيض على النفوس بالحق، يجعل للوجود معنى يتجاوز في دفقه حدود الزمان والمكان. بكل لحظة من وجودها مقام للتأمل الوجودي، ودعوة إلى التفكر في حكمة الله (عز وجل)، وفي أسرار خلقها (سلام الله عليها)، فقد استودع فيها سره. إن النظر فيما وصلنا من مآثر الزهراء (سلام الله عليها) هو أساس رؤية النور، والتأمل في الوجود، والحس بالانتماء إلى المصدر، وفهم أن الكوثر عطية وحقيقة روحية تمثل امتداد الرسالة السماوية في أبهى صورها، إذ كانت ولادتها (سلام الله عليها) كرامة تصاعدية ممتدة في نفس النبي (صوات الله عليه) تتجاوز البهجة، ومن تقادير الخلق إلى ارتباط روحي عميق، جارٍ بالنور الإلهي الذي استودعه الله في كيانها، فهي (أم أبيها). كل خطوة، وكل حركة، وكل لمسة كانت شاهدًا على أن السيدة الزهراء (عليها السلام) مدرسة للفضائل، ومصدر الفيوضات الإلهية لكل العصور والدهور. فلنتصور فقط أن السيدة الزهراء (عليها السلام) كانت تزهر في ساق العرش لأهل السماء وهذا وحده يفتح الأفق على أبعاد معرفية وروحية عميقة جدًا، فهو يعني أنها كانت منذ البداية حلقة الوصل بين الخالق جل وعلا ومخلوقاته، بين السماء والأرض، بين الروح والجسد، بين النور والإنسانية، وكل ما حملته في كيانها منذ النبضة الأولى، كان دعوة للوجود إلى التقدير الإلهي. هكذا نفهم أن ميلاد السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) رحلة نورانية من المدى السماوي إلى جميع العوالم، تصاعد شعوري يتنامى في النفوس، يملأ القلوب بالبهجة التأملية العرفانية، ويغرس في الأرواح حب الله تعالى، والإيمان، والطهارة، والصدق، والنبل. إنها إشراقة تتعدى كل الحدود، ومنارة لا تنطفئ، فهي الدليل لكل قلب يسعى إلى الحق والجمال، وكل نفس تتوق إلى معرفة السر الإلهي الذي يكتنف العترة الطاهرة (عليهم السلام) منذ النطفة المباركة حتى الأبدية.