السيدة الزهراء (عليها السلام) شاهدة وشهيدة
نقرأ في زيارة مولاتنا الزهراء (عليها السلام): "السلام عليك يا ممتحنة"(1)، إن الامتحان هو أبرز سمات السيدة الزهراء (عليها السلام)، امتحان شاق لا يتعلق بالقضايا الشخصية والدنيوية العابرة التي يمر بها أغلب الناس، بل بقضية الدين والرسالة، وحفظهما من التحريف والتلاعب، الامتحان الذي يتعلق بالأمة الإسلامية ومستقبلها واستقرارها إلى آخر الدهر. لقد عاشت السيدة الزهراء (عليها السلام) تفاصيل ذلك الامتحان يومًا بيوم، فمنذ أن فتحت عينيها على الدنيا، كان أبوها رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخوض الصراع والمواجهة الشرسة مع كفار مكة بعد إعلان الدعوة الإسلامية، وكانت (عليها السلام) تعيش يوميات تلك الأجواء المتوترة، والتصعيد المستمر، وتشاهد ما كان يتعرض له الرسول (صلى الله عليه وآله) والمؤمنون بدعوته من اعتداء وقسوة يعجز عن تحملها الرجال. وبعد الهجرة النبوية الشريفة عاشت السيدة الزهراء (عليها السلام) مع أبيها محنةً جديدةً، إذ فتحت على الرسول (صلى الله عليه وآله) جبهة في غاية الخطورة والحساسية، ألا وهي جبهة المنافقين، تلك المجموعة التي كانت تكيد للدين، وتنصب مصائدها وغوائلها، ومما زاد من خطرهم أن بعضهم كان قريبًا من الرسول (صلى الله عليه وآله)، ويوصف بالصحابي، وهذا أشد وأخطر من مواجهة الكفار الذين كانوا يظهرون عداءهم علنًا، وقد كانت مواجهة السيدة الزهراء (عليها السلام) بعد شهادة الرسول (صلى الله عليه وآله) مع هذه الفئة، فقد رحلت شهيدة لكن ليس على يد الكفار، بل على يد من يدعي الإسلام والصحبة للرسول (صلى الله عليه وآله)! وعلى الرغم من الانتصار الذي حققه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بناء الدولة الإسلامية وتثبيت أركانها، إلا أن هناك مؤامرةً كانت تحاك خيوطها وتتجمع في الخفاء، مؤامرة تتعلق بمن سيخلف رسول (صلى الله عليه وآله) بعد رحيله، وعندما عرض على الرسول مرض الموت أخذت إرهاصات تلك المؤامرة ومظاهرها تطفو على السطح لتعلن عن بشاعة ما سيحدث مستقبلًا؛ لذلك حاول الرسول (صلى الله عليه وآله) إبعاد أولئك المنافقين عن مسرح الأحداث ليضمن الانتقال السلس للخلافة إلى الإمام علي (عليه السلام) بدون مشاكل أو صدام، فعبأهم في جيش أسامة بن زيد في أواخر أيامه، وكان (صلى الله عليه وآله) حريصًا كل الحرص على تحرك الجيش بعيدًا باتجاه بلاد الشام حيث وقعت معركة مؤتة؛ لكن المنافقين عصوا أوامره عصيانًا سافرًا، وقفلوا عائدين إلى المدينة تحت ستار الظلام، مما أغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال في حقهم: "جهزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلف عنه"(1). ولكن الأهم والأخطر ما حدث عندما قال الرسول (صلى الله عليه وآله): "هلموا أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده أبدا"، وطلب أن يحضروا له كتفًا ودواة، فقال أحدهم: إن الرجل ليهجر(2). وبينما كان الإمام علي (عليه السلام) وبنو هاشم منشغلين بتجهيز الرسول (صلى الله عليه وآله)، ودفن جثمانه المقدس، أسرع قادة الانقلاب لوضع مخططهم الانقلابي موضع التنفيذ، إذ ارتفعت الأصوات، ودارت المناقشات الصاخبة مع جماعة الأنصار. لم تكن هذه الأحداث المتسارعة مفاجئة للسيدة الزهراء (عليها السلام)، فقد كانت على دراية كاملة بخوافي الأمور، كيف لا وهي ربيبة الوحي وحجة الله على الخلق؟ لذلك تدرجت السيدة الزهراء (عليها السلام) في التصدي والمواجهة، واستخدمت العديد من الأساليب، فقد أرسلت أولًا رسولًا إلى السلطات السياسية تطالبها بحقها في (فدك) بعد أن صادرتها، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أهداها إياها بأمر من الله تعالى، ثم قررت (عليها السلام) مواجهة السلطة الغاصبة بنفسها في اجتماع خاص، وأوردت لخصومها الحجج والبراهين التي تثبت حقها، وطافت على بيوت الأنصار تطلب منهم نصرها في إرجاع حقها وحق الإمام علي (عليه السلام) لكونه الخليفة المنصوص على إمامته وقد بايعه الجميع منذ عهد ليس بالبعيد! ولا ننسى خطبتها العامة في المسجد التي أوضحت فيها عظمة الإمام علي (عليه السلام)، ودوره في تشييد الإسلام وإرساء قواعده، وحذرت الأمة من النتائج الكارثية المترتبة على خذلانه وعدم نصرته. ولقد واجهها المنقلبون على أعقابهم بشتى أنواع الأذى، فاعتدوا عليها معنويًا عندما ردوا شهادتها وكذبوها، ولم يراعوا حرمة الرسول (صلى الله عليه وآله) فيها وهي وديعته في أمته، وبضعته التي أعلن مرارًا أن الله يرضى لرضاها ويغضب لغضبها! واعتدوا عليها ضربًا عندما هجموا على دارها، وأشعلوا حطبهم على عتبته التي كان جبرئيل (عليه السلام) يستأذن عند الوقوف عليها، ضربوها بالسوط حتى احمر عضدها، وكسروا أضلاعها، وأسقطوا جنينها، كل ذلك وهي صابرة محتسبة لا تشغلها آلامها الجسدية عن أوجاع الإسلام وهي ترى الأخطار تحدق به من الجهات كلها! وعندما لم تثمر محاولاتها (عليها السلام) في إيقاظ ضمير الأمة التي أمعنت في خذلانها والتقاعس عن نصرتها، انتبذت لنفسها بيتًا للأحزان، وصار الأسى والبكاء رفيقًا لها، حتى أصابها المرض، ونحل بدنها! وقبل أن تغادر الدنيا أطلقت صرختها الأخيرة المتمثلة بوصيتها النارية بأن لا يحضر تشييعها ودفنها من تضافر على ظلمها والاستخفاف بحقها، وأن يخفى موضع قبرها؛ لتبقى تلك الصرخة مدوية في أسماع الدهر تعلن عن احتجاج الزهراء الأبدي، وغضبها الدائم على الظلم الذي وقع عليها والذي هو في حقيقته ظلم للرسول (صلى الله عليه وآله) وللدين والشريعة! رحلت الزهراء (عليها السلام) بعد أن قدمت زهرة شبابها قربانًا للدفاع عن دينها وإمام زمانها، وبعد أن أعطت دروسًا في البسالة والثبات على الحق مهما كانت التضحيات، ومهما عز الناصر، وقل المعين. رحلت الزهراء (عليها السلام) شاهدة على أمة لم تدرك حجم الخطأ الذي وقعت فيه بتقاعسها عن نصرة الحق، فاستحقت كل الويلات التي حذرتهم منها مثلما أعلنت في ختام خطبتها لنساء الأنصار: "ثم طيبوا عن دنياكم أنفسًا، واطمئنوا للفتنة جأشًا، وأبشروا بسيف صارم وسطوة معتدٍ غاشم، وبهرجٍ شامل، واستبداد من الظالمين، يدع فيئكم زهيدًا وجمعكم حصيدًا، فيا حسرةً لكم"(3). ورحلت الزهراء (عليها السلام) شهيدة تحمل في قلبها آلام الخذلان، وعلى جسدها آثار الضرب والتعذيب، تشكو لأبيها ما نالته من أمة لم تدرك عظمتها ومقامها في الملأ الأعلى، تنتظر القصاص العادل لظالميها على يد ولدها الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف). ......................... (1) مفاتيح الجنان: ص80. (2) شرح نهج البلاغة: ج6، ص52. (3) بحار الأنوار: ج30، ص535. (4) المصدر نفسه: ج43، ص161.