رياض الزهراء العدد 225 طفلك مرآتك
الطفولة تحت مطرقة العالم الإلكتروني
كانت أشعة الشمس الذهبية تلامس أطراف الحي الصغير، تتسلل إلى نافذة منزل (يوسف) وهو يحتفل بصباحٍ آخر، يركض في أرجاء البيت ضاحكًا كأنه عصفور حر، تارةً يلعب بسياراته الصغيرة وأخرى يركل الكرة ووجهه يلمع من فرط الحماس، صوته البريء يملأ فراغات المنزل، أما ابتسامته فما لبثت أن توارت حين التفت إلى النافذة التي كسرتها كرته، فلم يجد أمامه سوى أمه بنظرتها الحادة الموبخة، وهي توجه سبابتها نحوه كالسيف قائلةً: يوسف، كفى لعبًا، كم مرة قلت لك إن هذا الركض يزعجني وهذه الفوضى تثير غضبي! انكمش قلبه الصغير، كأن العالم قد ضيق عليه الخناق فجأةً، أخذ هذا النهي المستمر من الأم يجعل يوسف يتراجع عن حيويته، فيأوي إلى فراشه حزينًا لكم الطاقة التي لم يستطع أن يحررها، وشيئًا فشيئًا راح يعتاد الهدوء المرضي لأمه والمزعج لطفولته! وفي إحدى ليالي الشتاء الباردة، بينما كان يوسف يحاول النوم هربًا من صمت البيت الثقيل، فتح الباب فجأة، فدخل والده بهدية غريبة، هاتف لامع بلمسة سحرية، مليء بألعاب ملونة، تلمع كالنجوم، فقال ليوسف: خذ يا بطل، لكن لا تفرط في استعماله، لكن تلك النصيحة ضاعت في الفراغ، فما إن أمسك يوسف بالهاتف، حتى ابتلعه العالم الافتراضي، عالم بلا قيود، بلا صراخ، بلا قول (كفى)، فكان هذا الهاتف هو المنقذ لأمه؛ ليتحول هو إلى طفل هادئ مثالي مثلما أرادت الأم. تتابعت الأيام، ولم يعد يوسف ذلك الطفل الذي يركض خلف الشمس، بل صار ظلًا منحنيًا على شاشةٍ صغيرة، يقاتل وحوشًا وهمية بينما هناك جبهة حقيقية تحاصره في الواقع، بين إدمان لا يرحم، وغضب أمومي يزداد؛ لأنها بدأت تفقد طفلها حتى في أوقات الطعام، فهو لم يهدأ فحسب، بل أصبح أكثر بعدًا عنها، وبين أب نادم لعدم وضع ضوابط لاستخدام يوسف للهاتف، لكن الندم جاء متأخرًا. والسؤال: هل كان الهروب إلى العالم الافتراضي حلًا أم كان فخًا أوقع الجميع في دوامة من الندم؟ هرب الطفل إلى عالم افتراضي تحول إلى سجنٍ بلا قضبان، فلم تكن الشاشة الصغيرة ملاذًا ليوسف فحسب، بل كانت أيضًا القيد الذي كبل طفولته من دون أن يشعر، ولكن الأم لم تدرك أنها استبدلت مشكلةً مرئية بوحشٍ صامت ينمو في الظلام، فما كان هروبًا من صراخها، تحول إلى إدمان يسرق من يوسف براءة نظراته، ويحول ضحكاته إلى همسات ميكانيكية كلما انتصر في معركة وهمية. أما الأب الذي أراد ببساطة أن يعوض ابنه، فقد وجد نفسه أمام كابوس أكبر، ألا وهو طفل لم يعد يمسك بالكرة، بل أصابعه تتشنج على الهاتف حتى في ظلام الليل، وبدأ الندم ينهش قلب الوالد لأنه لم يرسم حدودًا لطفله، ولم يشغل بألعاب حقيقية، ولم يمض معه لحظات ليلعب معه، لكن الزمن لن يعود إلى الوراء، والجميع يعيشون العواقب، فيوسف أصبح جسدًا بلا روح، حتى المدرسة لم تعد ذات قيمة لديه أمام إغراء العالم الالكتروني. العالم الافتراضي أصبح وحشًا مسيطرًا على عقول أغلب الأطفال، ولم يعد للأهل حيلة سوى المزيد من التنازلات، وكل تنازل يعني مزيدًا من الضياع للأطفال، أما أم يوسف التي أدركت في وقت متأخر أن الهدوء الذي كانت تطالب به كان بمنزلة دفن ابنها، حتى أن غضبها تحول إلى خوف مرير، وسؤال ملح: هل سيعود طفلي إلى سابق عهده عندما كنت أصرخ عليه؟ والجميع يطرحون السؤال الأهم: هل هناك من مخرج؟ في الحقيقة ربما تكون الأزمة قد بلغت ذروتها، لكن الأمل لم يمت بعد، فمثلما أن الإدمان يبدأ بخطوة صغيرة، فإن التعافي أيضًا يبدأ بكلمة واحدة: (كفى) هروبًا إلى العوالم الافتراضية، (كفى) صمتًا يخفي دموع الأطفال، و(كفى) أسفًا على الماضي، فقد تكون المعركة طويلة الأمد من أجل إعادة (يوسف) إلى الحياة الطبيعية، وإلى ضحكته التي تملأ البيت من دون خوف، وإلى أهل يدركون أن التوازن في الأمور هو الدرس الأصعب والأجمل، و(كفى) هي الحل حتى لو كان وجوم الطفل مؤذيًا لقلوبنا اليوم، لكنه النجاة له غدًا؛ لذلك لا بد من وضع حدود صارمة لاستخدام هذه الشاشة السحرية، لتبدأ قصة جديدة، فالأمر بين أيدي الأهل فقط، فهم اللبنة الأولى، وهم الملاذ الدائم.