يَعيشُ وحدَهُ ويَموتُ وحدَه
هو جندب بن جنادة صاحب الكلمة الجريئة، الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، صدح بالحق فارتقى إلى أعلى المراتب السامية، فاستحق الخلود، لازم النبيّ (عليه السلام) فتعلّم منه العلم، والحكمة، والزهد، والورع، والشجاعة، وقد قال فيه الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)أحاديث عديدة تبيّن مكانته العظيمة ودوره في تثبيت دعائم الإسلام عن طريق مواقفه الشجاعة ضدّ طواغيت زمانه، إذ كان يجتمع إليه الناس ليحدّثهم بفضائل الإمام علي (عليه السلام)، فضاق ذلك على عثمان بن عفان، فنفاه إلى الربذة بعد أن كان منفياً في الشام، يقض مضجع معاوية، ومنع الناس أن يودّعوه، فكان الإمام علي (عليه السلام) والحسن والحسين (عليهما السلام) وعقيل وعمار بن ياسر من المبادرين إلى توديعه وواسوه، وقال له الإمام علي (عليه السلام): "يا أبا ذر، إنك إن غضبت لله فارجُ مَن غضبت له، إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وما أغناك عمّا منعوك، ولو أنّ السماوات والأرض كانتا على عبد رتقاً ثم اتقى الله لجعل له منهما مخرجا، فلا يؤنسنك إلا الحق ولا يوحشنك إلا الباطل"... فبكى أبو ذر وكان شيخاً كبيراً، وقال: "رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة، إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، مالي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم، إني ثقلت على عثمان بالحجاز، كما ثقلت على معاوية بالشام، وكره أن أجاور أخاه وابن خاله بالمِصرين، فأفسد الناس عليهما، فسيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلا الله، والله ما أريد إلا الله صاحبا، وما أخشى مع الله وحشة".(1) يرجع إليه الفضل في تشيّع أهل جبل عامل، فقد استثمر وجوده في الشام فنشر التشيّع هناك، وخاصة في منطقة جبل عامل، وقد قال السيد الأمين في كتابه (أعيان الشيعة): "ومن المشهور أن تشيّع جبل عامل كان على يد أبي ذر، وأنه لمّا نُفي إلى الشام، وكان يقول في دمشق ما يقول، أخرجه معاوية إلى قرى الشام، فجعل ينشر فيها فضائل أهل البيت، فتشيّع أهل تلك الجبال على يده، فلمّا علم معاوية، أعاده إلى دمشق، ثم نُفي إلى المدينة..".(2) ويكفي أبو ذر فخراً قول الرسول (صلى الله عليه وآله) فيه: "ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، يعيش وحده، ويموت وحده ويبعث وحده، ويدخل الجنة وحده، وهو الهاتف بفضائل أمير المؤمنين (عليه السلام)".(3) وقد سُئِلَ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن أبي ذر: فقال: "وعى علماً عجز فيه، وكان شحيحاً حريصاً، شحيحاً على دينه، حريصاً على العلم، وكان يُكثر السؤال فيُعطى ويمنع، أما إنه قد مُلِئ له في وعائه حتى امتلأ ".(4) فسلامٌ عليه يوم وُلد ويوم يموت ويوم يُبعث حيا، لاقى ربّه وحيداً في الثالث من شهر ربيع الثاني سنة 32 للهجرة. ........................... (1) كلمات الإمام الحسين (عليه السلام): ج1، ص127. (2) كتاب أبي ذر الغفاري: ص75. (3) بحار الأنوار: ج22، ص398. (4) مسند الإمام علي (عليه السلام): ج 8، ص110.