عَلى أَعتابِ الرَّحيلِ إلى كَربَلاء

أزهار عبد الجبار الخفاجي/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 271

بعد الفاجعة التي حصلت لآل الرسول (صلى الله عليه وآله), سعي أهل البيت (عليهم السلام) لإظهار الظلم الذي لحقهم من قِبل الطاغية، شعر يزيد بأن حياته في خطر، وأن كرسيّه سيتضعضع إذا بقيت السيدة زينب (عليها السلام) والإمام زين العابدين (عليه السلام) يُريان الناس عظم الفاجعة التي لحقت أهل البيت (عليهم السلام). فاستشار يزيد في الأمر، وقرر أن يُرحّل العائلة إلى المدينة، فخيّرهم بين البقاء في الشام والرحيل إلى المدينة، عندها ارتج القصر وتزلزل ومُليء قلب يزيد رعباً وهلعاً حينما سمع صرخة السيدة زينب (عليها السلام) وهي تقول وا أخاه.. واضيعتاه.. عندها تساءل اللعين: صوت من هذا؟ فأُخبر أنها السيدة زينب (عليها السلام)، فتوجّه بكلامه إليها خاضعاً خانعاً، فقال: اصبري يا بنت علي، وارعي حال اليتامى والأرامل، واعلمي أنّ الصراخ لا فائدة منه، عندها هاج قلب السيدة زينب (عليها السلام) إذ أثار عليها حزنها، وبكت وقالت له: ذِكرُ الرحيل إلى المدينة جدّد حزني، وزاد همّي وغمّي، فقال اللعين: إنّ الغرباء يهوون وطنهم، ويفرحون بذكره، فيلزم أن تفرحي وتبتهجي، فأشعل قلبها حزناً وصارت دموعها تجري، وبكت بكاءً شديداً، فقال اللعين: السكوت عن الماضي وذكرياته أجمل وأفضل، بكلامه هذا تناسى عظم الجريمة التي قام بها، بعدها أمر بتجهيز الموكب بأبهى ما يكون وأمر بتزيينه بأستار ثمينة وراقية، يريد من ذلك إظهار البراءة من دم الإمام الحسين (عليه السلام) وأراد أن يُري الناس بأنه ردّ العقيلات معزّزات مكرّمات، فما كان من فطنة وحكمة وذكاء السيدة زينب (عليها السلام) إلا أن منعته من فعل ذلك، فأمرت بإزالة الزينة من المحامل قائلةً: اجعلوها سوداء حتى يعلم الناس أننا في مصيبة وعزاء لقتل أولاد الزهراء (عليها السلام)، وكذلك فعلوا(1). خرج الموكب الرّباني الحزين بين صفوف الباكين والنائحين، يتقدّمه الإمام زين العابدين (عليه السلام) وبجانبه عمّته السيدة زينب (عليها السلام)، وخلفها العقيلات من بني هاشم، تحيطهم هالة من النور، وتلوّح لهم أيدي الناس في حزن شديد ولوعة بادية، لا يمرون بقرية أو مدينة إلا وتقيم السيدة زينب (عليها السلام) العزاء لأخيها الإمام الحسين والشهداء (عليهم السلام) وهي بذلك تُعلم الناس المُعولين الباكين على عِظم الفاجعة، وما إن بلغ الركب الميمون مفترق الطرق بين العراق والحجاز(2) اختاروا طريق العراق سائرين إلى كربلاء، فوصلوا إليها يوم العشرين من شهر صفر، وقد اجتمع عند قبر الحسين (عليه السلام) جماعة من أهل السَّواد، وهم أهل القرى والأرياف الساكنون في نواحي كربلاء ممّن سمعوا بقدوم موكب الإمام (عليه السلام) إلى هناك، وصادف هناك مجيء الصحابي جابر الأنصاري برفقة عطية العوفي وجماعة من بني هاشم قبل أن يصل الركب المبارك، كانت القلوب تشتعل حزناً والدموع مستعدة للنزول لكن ينقصها شرارة واحدة حتى تضطرم النفوس بالبكاء، وترتفع أصوات النحيب، في تلك اللحظات وصل الركب الشريف الذي ضمّ الأنوار الهاشمية، فكان الشرارة المرتقبة، فتلاقوا بالبكاء والعويل، وقامت النساء الموجودات بمواساة السيدة زينب (عليها السلام)، وبالسؤال عمّا جرى في كربلاء(3)، فقالت السيدة زينب (عليها السلام): (بأيّ لسان أشرح لَكُنَّ ما جرى علينا في كربلاء؟ أم بأيّ بيان أفسّر لَكُنّ مصائب يوم عاشوراء؟ إنها مصائب سوداء ورزايا عظيمة، يودّ الإنسان أن لا يراها في حياته أبداً، وقد سئمت الحياة على أثرها، فيا نساء قريش، ويا عقائل بني هاشم، إنكنّ تسمعنَ مني شيئاً، ويطرقكنّ عني حديثٌ وكلامٌ، ولكن أين السمع من الرؤية؟ وأين الغياب من الحضور والمعاينة؟ فلو شرحت لكنّ ما جرى علينا يوم عاشوراء صغاراً وكباراً وما جرى على رجالنا من قتل وسلب، وعلى نسائنا من سبي وأسر ونهب، للمتنّني كيف بقيت في الحياة مع كلّ ذلك، ولم أمُت من شدة المصاب وعظم الفاجعة؟) ثم ذكرتْ لهنّ مجملاً من ظلم بني أمية وحقدهم وقسوتهم عليهم، فأبكت العيون، وأقرحت الجفون، وأحرقت القلوب، فعلا صُراخ النسوة، واشتدّ نحيبهنّ حتى ضجّ لبكائهنّ وعويلهنّ أهل السموات وسكان الملأ الأعلى، وأقاموا على ذلك ثلاثة أيام حتى عادوا إلى المدينة. ساعد الله قلب زينب (عليها السلام) التي بقيت في حزن دائم، ووهنت قوتها، وضعفت حيلتها، ومع كلّ ذلك لم تفتر عن ذكر أخيها الإمام الحسين (عليه السلام)، ولم تضعف عن تبليغ هدفه الإنساني وإيصال رسالته المكتوبة بالدمع والدم على مرّ العصور ولكلّ الأجيال.(4) ........................... (1) الخصائص الزينبية، ص191. (2) السيدة زينب ثورة لا تهدأ، ص269. (3) زينب الكبرى من المهد إلى اللحد، ص517. (4) الخصائص الزينبية، ص194.