رياض الزهراء العدد 94 أنوار قرآنية
شَذَراتُ الآيَات_ 31
(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)/ (النور:55). تحدثت الآية السابقة عن طاعة الله (عزّ وجل).. ورسوله (صلى الله عليه وآله) والتسليم له، أمّا هذه الآية فبيّنت نتيجة هذه الطاعة ألا وهي الحكومة العالميّة التي وعدها الله (عزّ وجل) للمؤمنين، وهو وعد جميل للذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن سيجعل لهم مجتمعاً صالحاً، ويستخلفهم في الأرض، ويجعل دينهم متجذراً وثابتاً وقوياً بين الشعوب، ويبدل خوفهم أمنا بعد سيادة حكم التوحيد في العالم، وإجراء الإحكام الإلهيّة، واستقرار الأمن، واقتلاع جذور الشرك..(1) جاء هذا الخطاب لعامة المسلمين، وفيهم المنافق والمؤمن، والوعد خاص بالذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات..(2) إنّ الله (عزّ وجل) لم يجعل الإيمان وحده هو الذي يرشّح المؤمنين للاستخلاف، وإنما وعدهم بالاستخلاف إذا عملوا الصالحات؛ لذا أقسم على من جمع بين العمل الصالح والإيمان ليجعلهم خلفاء في الأرض، وكان وعد ربّك حتماً مقضيّاً..(3) أمّا بخصوص قوله تعالى: (.. كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ..) فهناك اختلاف بين المفسرين، فبعضهم يرى أنه يقصد بهم أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله) الذين استخلفهم الله (عزّ وجل) في الأرض في عصر النبي (صلى الله عليه وآله)، ويرى آخرون أن مفهومه واسع ويشمل جميع المسلمين الذين اتصفوا بهذه الصفات. أمّا بعضهم الأخر فيرى أنه إشارة إلى حكومة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) الذي يخضع له جميع العالم من الشرق إلى الغرب، ويجري حكم الحق في عهده على الجميع ولا شكّ في أنّ هذه الآية تشمل جميع المسلمين الأوائل وحكومة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) مصداق لها، إذ يتفق الجميع على أن الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) يملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً. وقال بعضهم إن كلمة (الأرض) مطلقة وغير محدودة وتشمل كلّ الأرض، وبذلك تنحصر في حكومة الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فالقول لا ينسجم مع عبارة (.. كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ..)؛ لأن خلافة السابقين وحكومتهم لم تشمل الأرض كلها، وقد ذكر العلامة الطبرسي في تفسير مجمع البيان: (رُوي عن أهل البيت (عليهم السلام) حول هذه الآية أنها في المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) من آل محمّد (صلى الله عليه وآله))(4) وقد ذُكر في تفسير روح المعاني وتفاسير عديدة لمؤلفين شيعة عن الإمام السجاد (عليه السلام) في تفسيره الآية موضع البحث أنه قال: "هم والله شيعتنا - أهل البيت -يفعل الله ذلك بهم على يدي رجل منا، وهو مهديّ هذه الأمة يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً"(5)، ولا تعني هذه التفاسير حصر معنى الآية، بل بيان مصداقها التام.. والمراد باستخلافهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم: عقد مجتمع مؤمن صالح يرث الأرض كما ورثت من قبل من الأمم الماضين أولي القوّة والشوكة، وهذا الاستخلاف قائم بمجتمعهم الصالح من دون أن يختص به أشخاص منهم كما كان كذلك في الذين من قبلهم, أمّا إرادة الخلافة الإلهيّة بمعنى الولاية على المجتمع كما كان الأنبياء داود وسليمان ويوسف (عليهم السلام) وهي السلطة الإلهيّة فمن المستبعد أن يعبّر عن أنبيائه الكرام بلفظ (..الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ..)، وقد وقعت هذه اللفظة في أكثر من خمسين موضع من كلامه تعالى ولم يقصد في أيّ واحد منها الأنبياء الماضين مع كثرة ورود ذكرهم في القرآن الكريم، صحيح أنه ذكرهم بلفظ رسل من قبلك، أو رسل من قبلي أو نحوهما، والمراد تمكين دينهم الذي ارتُضي لهم بحيث لا يزلزله اختلافهم في أصوله وأحكامه والعمل بفروعه..(6) الهدف النهائي من الاستخلاف عبادة خالصة: إنّ مفهوم عبارة (..يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا..) من الناحية الأدبيّة هو أنّ الهدف النهائي إعداد حكومة عادلة راسخة الأسس، ينتشر فيها الحق والأمن والاستقرار، وتكون ذات تحصينات أساسها العبوديّة لله تعالى وتوحيده، وهدفها السامي تربية البشر وتسامي أنفسهم. عبادة لا يحتاج الله تعالى إليها، وإنما يحتاجها البشر لطيّ مراحل تكاملهم الإنساني، ولا يمكن تحقيق هذه العبادة الصافية إلّا بتشكيل حكومة عادلة..(7) .................................................. (1) الأَمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج11، ص98. (2) تفسير الميزان: ج15، ص151. (3) الحياة السعيدة في ظل سورة النور: ص244-245. (4) تفسير مجمع البيان: ج7، ص267. (5) الأَمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج11، ص99-101. (6) تفسير سورة النور: ص155. (7) الأَمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج11، ص101.