رياض الزهراء العدد 94 منكم وإليكم
صَمْتُ الكَلَامِ
مساحات الصمت زادت على مساحات الحوار, كنّا لا نكفّ عن الكلام, وكان الكلام هو وسيلتنا لتبادل أفكارنا ومشاعرنا, كانت تعجبه أفكاري وآرائي. كان يرى فيها إبداعاً وفناً جميلاً وعمقاً, وكان أيضاً يبادلني الحوار, كنّا نتكلم في أيّ شيء: مشاكلنا, أحلامنا, حبنا, أولادنا, كان يثري أفكاري بل ويثري روحي أيضاً, وكان هذا في نظري دليل الاهتمام الكامل المتبادل, ولذلك كانت تنتابني لحظات توتّر حينما كان ينقطع الحوار لدقائق, كان الصمت يقلقني, كان الافتراض الطبيعي عندي هو أننا يجب أن لا نكفّ عن الكلام أبداً مادمنا معاً وجهاً لوجه, لحظات الصمت الوحيدة كانت حينما نجلس قبالة بعضنا بعضاً, ولكننا كنّا نقطع هذا الصمت بمناقشة ما كنّا نقرأ, هكذا كنّا ولسنوات طويلة, ثم بدأت مساحات الصمت تزيد تدريجيّاً، ويقلّ الحوار، وتُحتضر الكلمات, ويزداد قلقي، ثم ضجري، وتتحرك مخاوفي وأتساءل: هل هو الملل يزحف إلى حياتنا؟ هل نفدت الكلمات؟ هل سئمت الروح؟ هل فرغ العقل بعد أن أفرغ كلّ محتوياته؟ هل مات الإبداع؟ واستسلمت.. لأنه لم يكن عندي ما أقوله, ولكنني كنت ألقي اللوم عليه، فهو الذي جرّني إلى الصمت بعد أن قلّت كلماته. أخذت أتأمل الأمر بعناية وقمت بتجربة عمليّة, سجلت في ذاكرتي الكلمات التي تبادلناها في يوم معين منذ الاستيقاظ وحتى آوينا إلى الفراش.. لقد كانت حقاً كلمات قليلة، وقلت لنفسي حقاً لقد طرأ تغيير على حياتنا, ولكن يبدو أنه غاب عنّي أن أتأمل معنى الكلمات بالعدد، لقد كان حساباً كمياً, مع أن الحوارات يجب ألّا تقاس بعدد الكلمات، وإنما بالمعاني المتبادلة بعمق الأفكار, وغابت عني أيضاً حقيقة أنه كلّما زادت سنوات العشرة وكلّما زاد الاقتراب وكلّما عمقت العلاقة بين الزوجين زادت قدرتهما على التحاور غير المنطوق، أي تصبح هناك وسائل كلاميّة أخرى للحوار وتبادل الأفكار والإحساس, ويصبح كلّ منهما قادراً على قراءة وجه الآخر، بل من متابعة حركة العين ذاتها يستطيع أن يعرف الكثير عمّا يدور بخلد الآخر, وتصبح الابتسامة أكثر تعبيراً وتأثيراً. إنها درجات أقصى من الاقتراب إلى الحد الذي يصبحان فيه كأنهما شخص واحد, ومنطقياً فإنّ الإنسان لا يتكلم مع نفسه بصوت مسموع، ولكن الحوار يكون داخلياً وغير مسموع, وهذا ما يحدث بين الزوجين بعد سنوات من الزواج, ولاحظت شيئاً آخر يتعلق بالإحساس, هو أن إحساس كلّ من الزوجين ينمو ويكبر إلى الحد الذي لا يحتاج فيه إلى كلمات لنقله والتعبير عنه, إذ يصبح كلّ منهما في حالة إحساس دائم بالآخر, وبذلك يصبح الصمت بليغاً, أبلغ من كلّ الكلمات. نقلت لزوجي هذه الأفكار التي راودتني عن الصمت, فقال لي: كلّما مرّت بنا السنوات ونحن نعيش معاً ازددت حباً وفهماً واقتراباً منك, وبعد أن تكلمنا لسنوات وسنوات وأجهزنا على كلّ القواميس والمعاجم لم أجد غير الصمت كأبلغ وسيلة للوصول إلى عقلك وروحك. فقلت له: ستصمت أكثر وأكثر.. وماذا سنفعل بوقتنا بعد سنّ المعاش؟ فقال: إنني أعد العدة لذلك بقراءة العديد من القصص لأحكيها لك.