البِعثَةُ النَّبَوِيَّةُ المُبَارَكَة
إنّ النبوّة سفارة ربّانيّة ومَهمة إلهية، تتعيّن من قِبل الله تعالى؛ لغرض هداية البشريّة بالهداية اللازمة مدى الحياة، وإنّ الله تعالى يصطفي من عباده مَن يتمتع بخصائص فذة تجعله قادراً على أداء المهام الكبرى، وتحقيق الركن القرآني في حركة البشر، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)/ (الذاريات:56)، فعبادة الجن والإنس لله تعالى تحتاج إلى سيرة نبويّة مقدامة. كان أهل المدينة ينتظرون ظهور النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وكان النصارى الذين يسكنون أطراف جزيرة العرب مثل الحيرة وبلاد الشام يبشّرون وينذرون بظهور النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وأصبح اليوم العالم أجمع ينتظر ظهور منقذ البشريّة على يد قائم آل محمّد (عجل الله تعالى فرجه الشريف). والملفت للنظر أنّ ملك اليمن المؤمن قد أسكن الأوس والخزرج في مدينة يثرب؛ لينصروا محمّداً (صلى الله عليه وآله) الذي سوف يخرج من مكّة، ويهاجر إلى المدينة، قائلاً: (فأمّا أنا فلو أدركته لخدمته وخرجت معه)(1)، فكان (تُبّع) الملك المؤمن قد آمن بالنبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) قبل ولادته بزمن طويل، وكان يردّد منشداً:(2) شهدتُ على أحمد أنه رسول من الله بارئ النّسمِ فلو مدَّ عمري إلى عمره لكنتُ وزيراً له وابن عمِّ وكنتُ عذاباً على المشركين أسقيهم كأس حتفٍ وغَمِّ بعثه الله تعالى على حين فترة من الرسل خاتماً للنبيّين، وناسخاً لشرائع مَن كان قبله من الرسل، فكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) أفضل الناس نسباً، فهو من أولاد الأنبيّاء، ومن نسل الساجدين، كما قال تعالى: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)/ (الشعراء:218، 219)، ففي هذه الآية دلالة على أنّ آباء النبيّ (صلى الله عليه وآله) من الساجدين الطاهرين المطهّرين، قال رسول الله( (صلى الله عليه وآله)): "قال جبريل: قلّبت الأرض من مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلاً أفضل من محمد( (صلى الله عليه وآله))، وقلّبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أبٍ أفضل من بني هاشم".(3) فكانت رحلة النور لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في نشر الإسلام في وسط شبه جزيرة الظلام، وقد بدّدت شمس الإسلام ظلام الجهل والكفر والطغيان، والمسيرة الطويلة تبدأ بخطوة، فكانت الكلمة الأولى عن الله تعالى كلمة العلم والمعرفة: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)/ (العلق:1)، فهي ثورة علميّة عقليّة جذريّة على الأعراف السائدة والطغيان الحاكم، فحطمت حركة المستكبرين في استعباد، وانتهت عبادة الأصنام وحلّ محلّها عبادة الرحمن، إذ صعد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) على كتف النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فحطّم الأصنام، وطهّر الكعبة الشريفة منها. ولو يسأل سائل: هل كان محمدٌ (صلى الله عليه وآله) نبيّاً قبل البعثة أو صار نبياً بعد البعثة؟ فقد قال بعض العلماء: إنّ البعثة النبويّة موازية لنزول أول ما نزل من القرآن وأُمر بالتبليغ والإنذار، وكانت في ليلة القدر: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ)/ (الدخان:3)، وأيد البخاري هذا الرأي.(4) وأمّا المجلسي قال: إنه (صلى الله عليه وآله) كان نبيّاً قبل البعثة (في بَدء سنّه) مؤيداً بروح القدس، يكلّمه الملك، ويسمع الصوت، ويرى في المنام، ثم بعد أربعين سنة صار رسولاً، وكلّمه الملك معاينة، ونزل عليه القرآن، وأُمر بالتبليغ، ويقول إنّ الإجماع عند الإماميّة وكثير من أبناء العامّة على أنّ البعثة النبويّة كانت في السابع والعشرين من شهر رجب.(5) وذكر الطباطبائي في تفسيره: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان يصلّي قبل نزول القرآن، وكان على الهدى(6)، وقال أيضاً: إنّ النبوّة لم تبدأ بنزول القرآن.(7) وقال (صلى الله عليه وآله) فُضِّلتُ على الأنبيّاء بستّ: "أعطيتُ جوامع الكلم، ونُصرت بالرعب في مسيرة شهر، وأُحلّت لي الغنائم، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأُرسلت إلى الخلق عامّة، وخُتم بي النبيّون".(8) ................................... (1) مستدرك سفينة البحار: ج1، ص471. (2) بحار الأنوار: ج15، ص182، كمال الدين: ص118. (3) السيرة النبوية: ج1، ص194، تاريخ ابن الوردي: ج1، ص95. (4) السيرة النبوية: ج1، ص182, 183. (5) بحار الأنوار: ج18، ص190. (6) تفسير الميزان: ج2، ص11. (7) تفسير الميزان: ج2، ص20. (8) بحار الأنوار: ج77، ص140.