الشَّفَاعَة
إنّ من الاعتقادات التي يتّفق المسلمون عليها جميعاً هو أيمانهم بأنّهم سيبعثون مرّة أخرى من بعد الموت للحساب، ويسمّى هذا بيوم القيامة، حيث إنّ الناس جميعاً سوف يقفون أمام المحكمة الإلهيّة التي هي جزء من منظومة عدله وحكمته تعالى، وتختلف بقوانينها وشهودها وحاكمها عن المحاكم الدنيويّة التي اعتادها الناس. ويضم هذا الاعتقاد عدّة مفاهيم أخرى تتعلّق بتفاصيله، حيث جرى عليها كلام كثير بين العلماء المسلمين بين نافٍ ومثبت، ومن هذه المفاهيم التي تتعلّق بذلك اليوم مفهوم يُسمّى بـ (الشفاعة), وبما أن الإيمان بالمعاد وبيوم الحساب من الإيمان بالغيب فلا سبيل لمعرفة تفاصيل ذلك اليوم إلّا من القرآن الكريم والسنّة الشريفة، وقد تحدّث القرآن الكريم في ثلاثين موضعاً عن مسألة الشّفاعة بهذا اللفظ، وهناك إشارات أخرى إلى الشفاعة دون ذكر لفظها، وفي الراويات تعابير كثيرة تكمّل محتوى الآيات المذكورة، وتوضّح ما خُفي منها من ذلك، فماذا تعني الشفاعة؟ هل معناها أنّ يترك الإنسان العمل ويعتمد على أن تناله الشفاعة في ذلك اليوم؟ وإلّا يتعارض ذلك مع مبدأ عدله تعالى في أنه لا يتساوى مَن يعمل ومَن لا يعمل, وإلّا يشجّع هذا المفهوم على ارتكاب الذنوب وترك الواجبات اعتماداً على الشّفاعة؟ فما معنى الشفاعة في المنظور الإسلامي:- الشّفاعة لغةً:- قال الراغب في مفرداته: "الشفعُ ضمّ الشيء إلى مثله، ويقال للمشفوع: شَفْعٌ..، والشفاعة: الانضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام مَن هو أعلى حرمة ومرتبة إلى مَن هو أدنى".(1) فأُطلقت على انضمام الفرد الأقوى والأشرف إلى الفرد الأضعف لمساعدة هذا الضعيف، وأمّا في العرف والشرع فلها معنيّان متباينان كلّ التباين(2):- 1. الشفاعة بالمعنى العرفي: إنّ الشفاعة لدى السواد تعني أنّ الشفيع يستفيد من مكانته وشخصيته ونفوذه لتغيير رأي صاحب قدرة بشأن معاقبة مَن هم تحت سيطرته، والشفيع قد يُرعب صاحب القدرة هذا، أو قد يستعطفه، أو قد يغيّر أفكاره بشأن ذنب المجرم واستحقاقه للعطاء وأمثال هذه الأساليب، والشفاعة بهذا المعنى هي - بعبارة موجزة - لا تعني حدوث أي تغيير في المحتوى النفسي والفكري للمجرم أو المتهم، بل إنّ كلّ التغيرات والتحولات تتوجه نحو الشخص الذي تقدم إليه بالشفاعة (تأمل بدقة)، وهذا اللون من الشفاعة ليست له مكانة في المفهوم الديني على الإطلاق؛ لأنّ الله لا يخطأ حتى يتوسط الشفيع في تغيير رأيه، ولا يحمل تلك العواطف الموجودة في نفس الإنسان كي يمكن إثارة عواطفه، ولا يهاب نفوذ شخص كي ينصاع لأوامره، ولا يدور سواه وعقابه حول محور غير محور العدالة. 2. المفهوم الآخر للشفاعة بالمعنى الشرعي: يقوم على أساس تغيير موقف (المشفوع له) أي أنّ الشخص المشفوع له يوفر في نفسه الظروف والشروط التي تؤهله للخروج من وضعه السيئ الموجب للعقاب وينتقل عن طريق الشفيع إلى وضع مطلوب حسن يستحق معه العفو والسماحة، والإيمان بهذا النوع من الشفاعة يربّي الإنسان ويُصلح الأفراد المذنبين، ويبعث فيهم الصحوة واليقظة، والشفاعة في الإسلام لها هذا المفهوم السامي. فالشرط الأساسي الذي بيّنه القرآن الكريم لمستحق الشفاعة هو ما ورد في قوله تعالى (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)/ (الأنبياء:28)، فلا تنال شفاعة الشافعين أحداً إلّا لمَن ارتضاه الله، والمرضي عنده تعالى يجب أن يكون مسلماً (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)/ (المائدة:3) لا كافر، فإنه تعالى يقول (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)/ (الزمر:7). وإن الارتضاء هنا هو الارتضاء اعتقاداً، وإن كان من حيث السلوك قد خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً. فمَن كان مرضياً من حيث الاعتقاد وخلط في سلوكه بين الصالح والسيئ واستحق العقوبة، فهو يكون مورداً للشفاعة، فيُرفع عنه العقاب الذي كان يستحقه فيما لو ترك ذنبه من دون تدخل الشفيع. ويتلخّص من هذا:- إنّ الشفاعة بمعناها الصحيح لها قيود وشروط متعددة الجوانب، فالمؤمنون بهذا المبدأ لابدّ من أن يسعوا إلى توفير شروط الشفاعة لكي يشملهم عطاؤها، وأن يجتنبوا الذنوب التي تقضي على كلّ أمل في الشفاعة كالظلم (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ)/ (غافر:18)، وأن يستأنفوا حياة جديدة قائمة على أساس تغيير عميق لأنفسهم، وأن يتوبوا من الذنب أو يهموا بالتوبة على الأقل من أجل بلوغ درجة الارتضاء، واتخاذ العدل الإلهي (لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا)/ (مريم:87)، ومن جهة أخرى لابدّ لنيل شفاعة الشفيع من أن يسعى الفرد إلى إيجاد نوع من التشابه والسنخية مع الشفيع، فهل نحن المتأملون لشفاعة آل محمد (صلى الله عليه وآله) كذلك، هل أوجدنا هذا التشابه والسنخية لنيل شفاعتهم (عليهم السلام)؟ .......................... (1) مفردات الراغب: مادة شفع, ص270. (2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل ص166-167.