طَالَ الانتِظَار

منتهى محسن محمد/ بغداد
عدد المشاهدات : 200

لعلّ من أشد الأمور وقعاً على البشر مرارة الانتظار، والعيش على أمل عودة الغائب إلى الديار، فذلك الغائب قد شلّ حركة ذويه وغيّب الفرحة عن وجوه أهله ومحبيه، وراح الأمل يصفق على ساعات يومهم لعلّهم في النهاية يحضون بساعات من النوم الهادئ، ولكن هيهات فالشوق سيغلبهم من جديد حتى تتسرب مشاعرهم نحو غائبهم البعيد. صورة لطالما تتكرّر وتنعاد في البيوت، ويبقى الأمل يصارع اليأس إلى ما لا انتهاء، ومن تلك الصورة المبسطة لحال شخص غاب عن أهله ننتقل إلى حال جموع الموالين وهم يتلظون شوقاً وأملاً في انتظار مخلّصهم وأملهم وقائدهم الموعود الحجة ابن الحسن. وقد ترك غياب الإمام في قلوب الموالين جمرةً تستعر وحسرةً لا تنقطع ودمعاً منهمراً، منذ أن غاب غيبته الكبرى في الرابع من شوال عام (329 هـ)، وذلك بوفاة آخر السُّفرَاء الأربعة وهو علي بن محمد السمريّ، ففي المدة تلك كان السُّفَرَاء يرونه، وربّما رآه غيرهم، ويصِلُون إلى خدمته، وتخرّج على أيديهم توقيعات منه إلى شيعته في أمور شتَّى. ومنذ ذلك الحين بدأت الغيبة الكبرى للإمام، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذا الخصوص: “المهدي من ولدي اسمه اسمي وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خلقاً وخلقاً، تكون به غيبة وحيرة، تضلّ فيها الأمم، ثم يقبل كالشهاب الثاقب، يملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً”.(1) وظل المنتظرون ينتظرون وينتظرون، ويعدّون الأيام وليالي الجمع، فيبتهلون ويدعون ويتبتّلون بالأسحار بلا انقطاع؛ أملاً في تعجيل ظهوره الميمون والانضمام إلى ركبه المبارك ركب الحقّ والدين القويم. وفي ذلك الحين تختلف وتتباين صور انتظارهم، فمنهم مَن ينتظر ولا يكفّ عن الدعاء والصلاة له، ويرى في ذلك العمل ذروة ولائه ومحبته له، ومنهم مَن راح ينغمس أقوى بالقضية المهدوية حيث اتخذها منهجاً وسبيلاً، فيدافع عنها بأخلاقه وأفعاله الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، ومنهم أولئك الخلّص الذين يغترفون من منهل محمد وآله الميامين صلوات الله عليهم أجمعين أغلب القيم والسجايا، ويتعاملون مع غيرهم بخلق التواضع والسّماحة والعزة، أولئك القلائل العازفون عن الدنيا، المنقطعون إلى الله، الذائبون في علوم أهل البيت الأطهار (عليهم السلام)، الذين ينتظرون فرج الإمام المهدي انتظاراً رسالياً وعقائدياً وجوهرياً. جاء عن أبي هاشم الجعفريّ قال: سمعتُ أبا الحسن العسكريّ(عليه السلام) يقول: “الخلف من بعدي ابني الحسن فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟ قلت: ولِمَ جعلني الله فداك؟ قال: لأنكم لا ترون شخصه ولا يحلّ لكم ذكره باسمه. قلت فكيف نذكره؟ قال(عليه السلام) قولوا: الحجة من آل محمد صلى الله عليه وآله وعلى آبائه الطاهرين المعصومين”.(2) وعلى الرغم من تنوّع المنتظرين واختلاف ثقافاتهم في الانتظار إلّا أنهم جميعاً يستشعرون طول الغيبة ومرارة الانتظار، وكلّما أفل يوم الجمعة تنقطع أنفاسهم ويحزنون لعدم اللقاء الميمون، لكنهم بكلّ لغاتهم وفعالهم وأفكارهم لم ولن ينقطعوا عن التبتّل والرجاء في تعجيل ظهور الإمام، وانتهاء عهد الغيبة الكبرى، يوم تنفرج الهموم وتزول الكروب ويبزغ الأمل من جديد في سماء الحياة الدنيا؛ لتعرش الأماني وتنطلق الآمال في دنيا الظلم والجور. ..................................... (1) مكيال المكارم: ج1، ص112. (2) مكيال المكارم: ج2، ص102.