رياض الزهراء العدد 97 ألق الماضي
سَارَة (عليها السلام) سَيِّدَةُ الأُمُومَةِ المُتَأَخِّرَة
هي سارة ابنة ملك حران في ناحية بلاد الشام، وهي ابنة خالة النبيّ إبراهيم(عليه السلام) منبت العزّ والخير والجاه، ويطيب الحديث في رحاب السيّدة التي في سيرتها جديد، لم تسبقها إليه امرأة من قبل ولا من بعد بمثل حكمتها فيه إلّا قلة من النساء اللّواتي عشن مثل تجربتها، وقد رصدت آيات القرآن الكريم لها حالاً من أحوالها، وخبراً من أهم أخبارها، وهو خبر البشارة بالنبيّين إسحاق ويعقوب (عليهما السلام). تشرح الكتب أيضاً كيف جاءت البشرى للنبيّ إبراهيم(عليه السلام) والسيّدة سارة (عليها السلام) من ضيوف كرام، وكيف كانت الدهشة وردّة فعلها التلقائية، ثم تؤكد إنجابها إسحاق ومن بعده يعقوب (عليهما السلام)، وهو بشرى استمرار نسلها ونسل النبيّ إبراهيم(عليه السلام) معاً في ذرية واحدة، وظهرت السيّدة سارة (عليها السلام) بالنصّ القرآني في سورتين كبيرتين، وهما سورة هود، وسورة الذاريات، ففي (الآية:71) من سورة هود بيّن القرآن للسيّدة سارة (عليها السلام) صورة جانبية حيال مشهد إبراهيم(عليه السلام) وهو يحاور ضيوفه وهو ينكر منهم عدم الأكل من العجل الحنيذ، الذي كان قد جاءهم به، وبعد أن أجابوه إجابة مطمئنة، بدت امرأته قائمة أي حاضرة عن قرب يسمح لها برؤية ما يدور وسماعه، قال: (عزّ وجل) (..فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ..) فقد ضحكت قبل وصول بشرى الضيوف إليها، ووفق السياق الواضح ومن المعروف أنّ مَهمة ضيوف إبراهيم(عليه السلام) إلى قوم لوط تحمل العذاب عقاباً لهم لإفسادهم في الأرض، وإذا وضعنا ضحك السيّدة سارة (عليها السلام) بعد سماعها هذا الخبر في إطار موقعها الاجتماعي كزوجة نبيّ مرسل صاحب رسالة ودعوة؛ سيكون تعبيراً سعيداً طبيعياً لإحقاق كلمة الحقّ بإزهاق فعل، وحينما قال (عزّ وجل): (قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ)/ (هود:72)، نرى تصاعد وتيرة الاستغراب، بل امتزاجها بشيء من الإرباك والخوف حيال واقع اجتماعي لا يألف بسهولة حدوث المعجزة، فقال تعالى واصفاً لها: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا..)/ (الذاريات:29) وأضافت، في سورة الذاريات أيضاً وبصدق إعلان حقيقة ما كانت عليه سابقاً، وما هي عليه الآن في زمن البشرى (..عَجُوزٌ عَقِيمٌ..)، حيث فتح الحديث في داخلها حزناً دفيناً ودهشة حتى حدود الاستنكار، لذلك أتى جواب الضيوف مخصصاً السيّدة سارة (عليها السلام) بتكريم لطيف جميل، موجهاً الخطاب إليها في بدايته: (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)/ (هود:73). وفي سورة الذاريات نالت السيدّة سارة (عليها السلام) شرف خطاب ملائكة الله معها مباشرة في وسام أرسلته عناية الله إليها: (قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)/ (الذاريات:30). إنّ السورتين تعرضان لنا كياناً كاملاً لامرأة تقف إلى جوار زوجها، وتقوم بواجباتها كاملة تجاه ضيوفه كسيّدة مجتمع لائقة بنبيّ عظيم. وبالغت الكتب في وصف غيرة السيّدة سارة (عليها السلام) من السيّدة هاجر (عليها السلام) وولدها(عليه السلام)، وأضافت أحداثاً مفتعلة وهذا خلاف الواقع، فإنّ السيّدة سارة (عليها السلام) زوّجت النبيّ إبراهيم(عليه السلام) جاريتها هاجر (عليها السلام)؛ كي لا تحرمه الولد، وهذا بحدّ ذاته بطولة نسائية نادرة في ذروة الصدق مع النفس، وفي منتهى الجرأة على مواجهة الواقع؛ لذلك لا يستطيع أحد رؤيتها في موقع تغار فيه تلك الغيرة المجنونة من جاريتها التي كانت مخلصة لها، وقد اختارتها بنفسها لأغلى مَهمة وبخاصة أنّ التاريخ يذكر أخلاق هاجر وطاعتها وإخلاصها، ومن جهة أخرى فإنّ مَن يقرأ آيات الله في النبيّ إبراهيم(عليه السلام) ومَن يرصد حركته الفكرية الراقية منذ طفولته ليخلص إلى نتيجة مفادها (..لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ)/ (الأنعام:76)، (..لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)/ (الأنعام:77)، في إعلانه هذه الخشية إلى بلوغه منتهى الرضا والاطمئنان ونقطة الوصول بعد مشاقّ البحث على طول الطريق (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)/ (الأنعام:79)، يستبعد فعلاً أن تنصاع شخصية الرجل القوي أولاً والنبيّ العظيم ثانياً لغيرة امرأة عمياء، وحاشا للسيّدة سارة (عليها السلام) أن تكون كذلك، ولم يكن في إسكان إبراهيم(عليه السلام) من ذريته في ذاك المكان البعيد إلّا هدفٌ رساليّ ذكره الله (عزّ وجل) في كتابه: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)/ (إبراهيم:37). إنّ إقامة الصلاة التي أعلنها إبراهيم هي الهدف الأساسي لتلك الرحلة الطويلة بين فلسطين ومكة.