مُحيِي المَذهَب الإِمَامُ الصَّادِق (عليه السلام)
يعدّ عهد الإمام الصادق(عليه السلام) عهد انفراج للنشاط الفكري لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، حيث عاصر ضعف الدولة الأموية وقمة انحدارها، وضعف الدولة العباسية؛ لأنها لم تستقر دولتها؛ فكان فضلاء الشيعة في ذلك الزمان آمنين على أنفسهم، مطمئنين، متجاهرين بولاء أهل البيت (عليهم السلام)، معروفين بين الناس، ولم يكن للأئمة مزاحم لنشر الأحكام، فيحضر الشيعة مجالسهم العامة والخاصة والاستفادة من علمهم. وهناك عامل آخر ساعد الإمام الصادق(عليه السلام)، وأباه الإمام الباقر(عليه السلام) على القيام بالمهام الفكرية ألا وهو ابتعادهما عن الطموح إلى تولي السلطة؛ لعلمهما بأنها لا تصل إليهما، وأنهما (عليهما السلام) لا يصلان إليها. ففي رواية عن ابن حمدون أنه قال: كتب المنصور إلى الإمام جعفر بن محمد(عليه السلام): لِمَ لا تغشانا (لا تزورنا) كما يغشانا سائر الناس؟! فأجابه(عليه السلام): "ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، بمعنى (بزيارتك لا نتقرب إلى الله)، ولا أنت في نعمة فنهنئك بها بمعنى (أن الخلافة ليس نعمة) ولا تراها نقمة فنعزّيك بها، فما نصنع عندك؟!". قال: فكتب له، تصحبنا لتنصحنا. فأجابه(عليه السلام): "مَن أراد الدنيا لا ينصحك، ومَن أراد الآخرة لا يصحبك". فقال المنصور: والله لقد ميّز عندي منازل الناس من يريد الدنيا، ممّن يريد الآخرة، وإنه ممّن يريد الآخرة لا الدنيا.(1) إلى جانب التعليم من قبل الإمام الصادق(عليه السلام) الذي تخرج عليه آلاف الناس، اتجه الإمام(عليه السلام) إلى تربية شخصيات مثقفة تتمتع بالذهنية العلمية في مجال التفكير وتكوينها ومتخصّصين في مجالات مختلفة منهم: الفقهاء، والقرّاء، والحكماء، والعلماء الذين حملوا الرسالة وأدوا الأمانة، فكانت طريقة الإمام الصادق(عليه السلام) تتلخص بالآتي: 1- التمرين 2- التأليف 3- التوثيق 1- التمرين: ويقصد به التدريب على خلق القدرة العلمية على الاستقراء والاستنتاج، ففي مجال الفقه كان الإمام(عليه السلام) يزوِّد مَن يرى إعداده لهذا بالقواعد العامة، ويأمره بالتفريع على القاعدة وبتطبيقها في مواردها. 2- التأليف: ففي هذا العهد نشطت حركة التأليف نشاطاً كبيراً بفضل تشجيع الإمام الصادق(عليه السلام). 3- التوثيق: هي مرحلة مهمة، ويقصد به: - توثيق الراوي، يعني الشهادة له بأنه من المستوى الموثوق به تديناً وعلماً، فينبغي الرجوع إليه. - توثيق الفقيه، يعني الشهادة له بالفقاهة وجواز الإفتاء، وهذا عامل قويّ للتحفيز على الاهتمام بالفقه، والاجتهاد وإفادة الناس منه.(2) فإنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقاة على اختلافهم في الآراء والمقامات، فكانوا أربعة آلاف رجل.(3) ومن هنا ظهر في الوسط العلمي ما يُسمى بـ (مدرسة الفقهاء الرواة)(4)؛ وذلك لاعتماد فقهاء هذه المدرسة على الرواية. وهذه الحقبة الزمنية التي نشط فيها الإمام الصادق(عليه السلام) تبلغ ثلاثة عقود ونصف تقريباً، وكانت مدة متميزة وفريدة لنشر الوعي والثقافة الإسلامية الأصيلة، وقد عُرف أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بأنهم شيعة جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام)، وسُمّي الشيعي جعفرياً، ومن هنا نعرف أنّ الإمام(عليه السلام) هو محيي المذهب، وهو السّر في عظمة هذا التراث. لقد كان استشهاد الإمام الصادق(عليه السلام) من الأحداث الخطيرة التي مُني بها العالم الإسلامي في ذلك العصر، فقد ارتفعت الصيحة في بيوت الهاشمية، وقام الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) بتجهيزه، وبعد الفراغ من تجهيزه صلّى عليه وقد ائتمّ به مئات المسلمين، وحُمِلَ الجثمان المقدّس على أطراف الأنامل في هالة من التكبير، وقد غرق الناس بالبكاء. فدُفن في مقبرة البقيع بجوار جدّه الإمام زين العابدين(عليه السلام) وأبيه الإمام محمد الباقر(عليه السلام).(5) .......................... (1) بحار الأنوار، ج47، ص148. (2) تاريخ التشريع الإسلامي، ص120. (3) الإرشاد للمفيد، ص271. (4) تاريخ التشريع الإسلامي، ص120. (5) أعلام الهداية، ج8، ص224-225.