عَقِيدَةُ الإِمَامِيّةِ فِي الجِهَاد
الجهاد في المنظور القرآني الجهاد هو بذل الطاقة وتحمّل المشقة، مأخوذ من جميع مشتقات مادة الجهاد سواء استعلمت في العلم أم العمل أم بذل النفس في سبيل الله تعالى أم المجاهدة في مخالفة الهوى، وهو أفضل الأعمال بعد الفرائض، وباب من أبواب الجنة، وركن من أركان الإسلام. تتضح حقيقته وأقسامه وأهدافه عن طريق الكثير من الآيات القرآنية التي تبيّن دوره تجاه الشريعة والإنسان، ويتمثل بالدعوة إلى التوحيد، ومحاربة الطغاة والمحاربين لله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله)، وكذا محاربة أهل البغي. فالموقف الإسلامي المحمديّ الأصيل من ردود فعل المحاربين والمنحرفين يتمثل بالجهاد ودوره في إفشال الصد الجاهلي وإحباطه، ووضع منهجية مستقيمة للحياة الإنسانية وما يتعلّق من أمر السيادة الحاكمية الإلهية على وجه الأرض، كون هذه الدعوة تنسجم مع فطرة الإنسان وتتجاوب مع آماله وآلامه، فإنّ منهج التوحيد ودعوة الحق مفادها قوله تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ..)/ (البقرة:257) أي إخراج الناس من ظلمات حكم الجاهلية والطاغوت إلى أنوار الحكم الإلهي، ومنهج الجاهلية ودعوة الطغاة والبغاة مفادها قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ..)/ (البقرة:257). فالجاهلية والطاغوت تبتغي الحكم والسيادة لمنهجها وسلطانها أمام منهج التوحيد وحاكمية الله سبحانه على شكل صدّ للناس، وإعاقتهم عن الالتحاق في موكب التوحيد بإثارة الفتن، ونشر الأفكار الضالة والترويج لها عبر رسائل كثيرة. إنّ للجهاد دوراً فعّالاً في إحباط الفتن والمؤامرات التي تحيكها القوى المحاربة وإفشالها، وهو تشريع حركي يناسب الظرف الأمني، والوضع السياسي، والمحيط الذي ينفّذ ويتحرك فيه، فهو ليس من التشريعات ذات القالب الواحد في الممارسة والأداء، بل هو تشريع يُراعي مناسبات الموضوع الخارجي في طبيعة تنفيذه. وكما هو علة محدثة للدين وعلة مبقية له تجلّت أهدافه ومهامه في التشريع الإسلامي بحسب الظروف الداعية له، متخذاً مراحل مترتبة متتالية مراعاة لتلك الظروف والدواعي. كان الكفّ عن المواجهة والامتناع عن اللجوء إلى القوة هو سياسة المرحلة الأولى، فالمؤمنون في هذه المرحلة لو كانوا يتصدون للجاهلية بالجهاد والكفاح المسلّح لأبادهم المشركون ولمحوا وجودهم، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ..)/ (النساء:77). فالمرحلة هذه كانت تقتضي منهم أن يكفوا أيديهم ويقتصروا على الثبات على المبادئ وإقامة الصلاة. والمرحلة الثانية من تشريع الجهاد هو الإذن في القتال، قال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ )/ (الحج:39). فبعد أن تمّ إخراج المؤمنين من مكة واستقرارهم في المدينة، إذن الله (عزّ وجل) لهم بقتال مَن أخرجهم بغير حقّ، وهذه مرحلة الإذن في الجهاد، ولم يُفرض بعد، بسبب أن الوضع النفسي لم يتهيّأ بعد كاملاً. وبعد هذا خرج أمر الجهاد من دائرة الإذن إلى دائرة الفرض والكتابة، لكن هذه الفريضة دفاعية وليست ابتدائية، قال تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ..)/ (البقرة:190). فالتعبير القرآني (الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) يدلّ على أنّ الفريضة كانت دفاعية، أمّا الآية الكريمة: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا..)/ (البقرة:216) تدلّ على وجوب البَدء بالقتال حتى تصل إلى التحريض والتأنيب والتهديد ومن ثمّ النفير العام، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ..)/ (الأنفال:65)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ..)/ (التوبة:38)، كذا قوله (عزّ وجل): (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ..)/ (التوبة:41). فهذه الآيات الكريمة تبيّن مراحل تشريع الجهاد وهو (كره)، وهذا تعبير عن مدى عمق معاناة المسلمين في ظلّ تشريع الجهاد الابتدائي والدفاعي.