لذةُ الاكتِشاف_ معرفة النفس
النفس تلك الموجود الجوهري الذي احتار في معرفة حقيقته أرباب الفكر والعلم، وتوغلوا في البحث عنها طلباً للحقيقة، فلم يجدوا لها طريقاً غير طريق الزهد في الدنيا وزخارفها والتوجه لعلتها الحقيقية كي تتغذي وتنمو وتصل لغايتها فتسمو وتعلو، فكان لابدّ من معرفة السبيل وإيضاح الطريق لنا وذلك بما تفضّلت به علينا والدتي في حواريتنا لهذا اليوم. قالت: إن لهذا المسلك سُبلاً يعرفها كلّ من أنار الله (سبحانه وتعالى) قلبه وأضاء طريقه وفتح عينيْ قلبه وسمعه، فنظر وسمع بقلبه، وسعى جاهداً في تربية نفسه وتهذيبها قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)/ (آل عمران:102)، وقال تعالى: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)/ (لقمان:15) فالسبيل الأعظم هو طريق محاسبة النفس محاسبة دقيقة وعسيرة، ومجاهدتها والرجوع إلى الله (سبحانه وتعالى) بالتوبة والإنابة، فالتوبة والإنابة هي التي ترفع الحُجُب عن قلب هذا الإنسان فيستضيء طريقه، وتنكشف له الحقائق وكثير من المجاهيل، قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)/ (البقرة:282) وهذه حقيقة العبودية لله (سبحانه وتعالى) أوضحها لنا مضمون الحديث الشريف: "ليس العلم بكثرة التعلم إنما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه"(1)، فإنْ أردتَ العلم فاطلب أولاً في نفسك حقيقة العبودية، واطلب العلم باستعماله، واستفهم الله (عز وجل) يفهمك، وحقيقة العبودية تكمن في ثلاثة أشياء: هي أن لا يرى العبد من نفسه فيما خوّله الله (عز وجل) مُلكاً؛ لأن العبد لا يكون له ملكٌ بل يرى المال مال الله (عز وجل) يضعه حيث أمر الله (عز وجل)، ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيراً، وجملة اشتغاله فيما أمره الله (سبحانه وتعالى) ونهى عنه، ولا يدع أيامه باطلاً، وفي هذه الدرجة كما قال تعالى: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)/ (فصلت:35) قد حصل على الحظوة والسعادة في الدّارين، هذه المشغلة النفسية ليست مقصودة دائماً لأجل الحظوة وسعادة الدارين أو لأجل معرفة النفس، فالمسيرة الإنسانية على مرّ التاريخ إذا تتبعناها نرى أنّ هنالك كثيراً من أرباب المسالك والمقاصد من أصحاب الارتياضات والأعمال النفسية كانت لهم مسالك وطرق مختلفة تقوم على أساس انصراف النفس عن الاشتغال بالملذات الدنيوية وعدم الإقبال على اللذائذ الجسمانية؛ لأن انكباب النفس على مطاوعة هواها يصرفها عن الاشتغال بنفسها، وأن الإنسان في جميع هذه المسالك يأتي بأعمال تصرف النفس عن الاشتغال بالتمتعات المادية، وذلك للحصول على خواص وآثار لا يتوصل إليها بالأسباب الطبيعية، فالواحد من أصحاب الرياضات على اختلاف طرقها وسننها، إنما يرتاض لما يرتاض من مشاق الأعمال، ولا همّ له في ذلك إلا تقوية النفس والتوصل إلى نوعٍ من السلطة على أمر النفس كي يحصل الأثر في مطلوبه، وهو في غفلة عن أمر معرفة النفس والسعادة الأخروية. ......................... (1)بحار الأنوار: ج67، ص140.