رياض الزهراء العدد 102 جامعة العلم
"هَذَا خَيرُ البَرِيَّة"
توجهت القابلة مسرعة لتبشر والده بقدوم المولود المبارك الذي ستُربي أمة كاملة بالعلم والفضائل على يده، فقال فيه الإمام الباقر (عليه السلام): "هذا خير البرية"(1)، فلم تجده القابلة في البيت، فوجدت جدّه الإمام زين العابدين (عليه السلام)، فزفت إليه خبر الولادة المباركة وعلم (عليه السلام) أنّ هذا المولود سيثبّت معالم الدين الإسلامي الصحيح في ظلّ وجود الكثير من الانحرافات الدينية والسياسية، وتوجه إليه مستبشراً فرحاً بقدومه، فأجرى عليه المراسيم الشرعية للمولود الجديد، فأذّن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، ولم تفرح بولادته أسرته الكريمة المتمثلة بالعصمة والطهارة فقط، بل فرح شيعته ومحبّوه بمجيئه أيضاً فحقاً كما قال الشاعر: إذا وُلد المولودُ منهم تهلّلتْ لَهُ الأرضُ واهتزّتْ إليهِ المَنَابرُ وُلد الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في شهر ربيع الأول في المدينة المنورة، ونشأ في كنف أبيه الإمام محمد الباقر (عليه السلام) وأمه الزكية الفاضلة الطاهرة فاطمة المكنّاة بـ (أمّ فروة (عليها السلام)) بنت الفقيه القاسم بن محمد بن أبي بكر، وقال (عليه السلام) فيها: "..وكانت أمي ممّن آمنت واتقت وأحسنت والله يحب المحسنين"(2)، وأخذ علومه من جدّه الإمام السجاد، وأبيه الإمام الباقر (عليهما السلام)، فقد عاش مع جدّه (عليه السلام) مدة اثنتي عشرة سنة حتى وفاته، وورث من هذه الأسرة المباركة جميع الصفات الفاضلة ومكارم الأخلاق العليا في عبادة الباري (عزّ وجل) وتقواه، ذاكراً لله تعالى في جميع أوقاته بالصلاة والدعاء، وقراءة القرآن الكريم، ونشر تعاليم الإسلام، وعُرف بالكثير من الألقاب منها: (الصادق، الفاضل، الطاهر، الصابر، عمود الشرف، الكافل). أسّس (عليه السلام) مدرسة قدّمت للبشرية رسالة كاملة وواعية، كان هدفها الجوهري تأسيس دولة إسلامية تحمل شريعة السّماء، واستمدت هذه المدرسة ديمومتها وبقاءها بالجهاد والصبر، فغذّاها (عليه السلام) علمياً وفكرياً وعقائدياً وأخلاقياً؛ ليسلم فكرها ومنهجها من جميع الانحرافات السياسية التي تمثلت بالفرق والجماعات الكثيرة المنتشرة في تلك الحقبة، فقال (عليه السلام): "والله إني لأعلم كتاب الله من أوله لآخره كأنه في كفي خبر السماء، وخبر الأرض، وخير ما كان، وخبر ما هو كائن، قال الله (عزّ وجل): (فيه تبيان كلّ شيء)"(3)، وقد عاصر الحكم الأموي لمدة أربعة عقود، وعايش الحكم العباسي ما يقارب العشر سنوات، ولم يكن مهتماً بالصراعات السياسية آنذاك فقد كان يوصي تلامذته بالتقيّة، واهتمّ كثيراً بتعليم مختلف العلوم من فقه، وحديث، وعلوم قرآن، وطب، وفيزياء، وكيمياء، وفلسفة، وعلم النبات ونشرها، وتتلمذ على يده آلاف التلاميذ الذين قدموا من مختلف أقطار العالم الإسلامي، منهم من شيعته ومنهم من أعدائه والمارقين، ومن جماعته الفقيه المتكلّم الذي كان له دور بارز في نشر فضائل أهل البيت (عليهم السلام) هشام بن الحكم، والفقيه العالم محمد بن مسلم، وزرارة بن أَعين، ومؤسّس علم الكيمياء جابر بن حيان، ومن تلامذته أيضاً مؤسسو المدارس الأخرى، مثل أبي حنيفة النعمان، وسفيان بن عينية، وغيرهم من التلاميذ الذين نشروا مختلف العلوم التي تلقّوها من مدرسته، وهناك العديد من الكتب نسبت إليه منها: (الجفر الأحمر، مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة، الجعفريات) وأيضاً مصحف قد خُطّ بيده الشريفة. يرجع إلى الإمام الصادق (عليه السلام) الفضل في نشر العلوم وبخاصة الإسلامية منها، فيرجع الفقهاء الآن إليه في استنباط الأحكام الشرعية، وكان له الفضل الكبير في بناء القيم الإنسانية لبناء الحضارة الإسلامية المشرقة، فترك لنا تراثاً فكرياً عريقاً وبهذا ساهم مساهمة إيجابية وفعّالة لجميع الأجيال التي تلت عصره بالعديد من القرون. ................. (1) أعلام الهداية: ج8، ص21. (2) الإمام الصادق من المهد إلى اللحد: ص81. (3) أعلام الهداية: ج8، ص25.