"وَقُولُوا للنَّاسِ حَسَنا"
حينما عادت (أم سجاد) من العمرة ذهبنَ إليها قريباتها لرؤيتها، فدار حوار فيما بينهنّ، فتحدثت (أم سجاد) وهي متألمة: إنّ ما يحدث في موسم الحج ومواسم العمرة شيء رهيب، ولكن هناك مواقف بسبب كلام يترك أثره في النفوس حاله كحال الحوادث التي حصلت في موسم الحج السابق، فقد التقيتُ بإحدى الناجيات في موسم الحج السابق، وروت لي كيف سقطتْ على الأرض بسبب التدافع، وأحسّتْ بصعوبة في التقاط أنفاسها، فمرّ بجانبها رجل من ضمن الواقفين لخدمة ضيوف الرحمان، وأمسكتْ بثيابه وطلبتْ منه أن يساعدها فرفض ذلك، وقال لها: اتركيني هذا وقت ذهابي إلى الغداء، وعلّقت على هذا الموقف الذي مرّت به قائلةً: أين الإنسانية، وأين الخلق الرفيع، وأين الفطرة السليمة التي فطرنا الله تعالى بها؟ فالله (عزّ وجل) أمر عباده أن يتخيّروا من الألفاظ أحسنها، ومن الكلمات أجملها؛ لتشيع المودة والألفة بين الناس في الحياة العادية، فكيف في المواقف الصعبة التي يحتاج الإنسان فيها أخاه المسلم ليمدّ له يد العون. فوافقت (أم محمد) هذا الكلام وتحدّثت: قال نبيّنا الكريم: (صلى الله عليه وآله) "الكلمة الطيّبة صدقة"(1)، هكذا علّمنا رسولنا الكريم (صلى الله عليه وآله)، وهذا الرجل بكلامه مع المرأة قد زاد آلامها وجعلها تشعر أنها ليست في بلاد المسلمين، فالمسلم لا يجرح أخاه المسلم، لقوله تعالى(وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)/ (آل عمران:159)، هذا خطاب الله تعالى لرسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله) وهو صاحب الخلق العظيم. وأيدت أخرى آراء المتحدثات وقالت: إنّ الكلام السيّئ يكشف سوء الخلق، ويعدّ من أمراض الأخلاق، ونحن إن رأينا سيّئ الخلق علينا أن ندعو له بالشفاء، كما ندعو لمريض البدن. وروت (عبير) ابنة (أم محمد) قصة قد حدثت في أحد الأماكن المقدّسة قائلة: نادت بصوت مرتفع إحدى خادمات المرقد على الزائرات أن يخلينَ المكان بسرعة كي ينظّفوه، فلم يستجبنَ معظم الزائرات لأمرها، فجاءت أخرى وقالت بصوت فيه رجاء لهنّ: رحم الله والديها التي تقوم بإخلاء المكان، فخرج جميع الزائرات من المكان، وعلّقت عبير على هذا الموقف قائلةً: الطلب نفسه من الاثنتين، ولكن الأسلوب هو الذي يختلف، فاستجاب الناس لصاحبة الأسلوب المهذّب. فردّت أخرى تعقيباً على كلام عبير، وقالت: هذا الكلام يذّكرني بقصة قرأتها عن رجلين في أحد الأسواق، أحدهما يبيع الخلّ والثاني يبيع العسل، فسأل بائع العسل بائع الخلّ: لماذا الناس يشترون الخلّ ولا يشترون العسل؟ فأجاب بائع الخلّ: لأنني أبيع الخلّ بلسان عسل، وأنت تبيع العسل بلسان خلّ.. فضحك الجميع، وقالوا قصة جميلة ومعبرة. وعقّبت على هذه القصة الأخت (أم هاجر) قائلةً: اللّسان عضو صغير في حجمه، لكن الله (عزّ وجل) جعل بكلمة واحدة منه قد نكون في أعلى عليين جنات النعيم، وبكلمة واحدة قد نكون في أسفل سافلين نار جهنم. وقالت إحدى الحاضرات: أنا لا أحتمل الكلام السيّئ، وأردّ مَن يتكلم معي بأسلوب غير لائق، فالمقابل المسيء يعدّ سكوتي ضعفاً، فأردّه كي لا يتعدى بكلامه معي في المرة القادمة. واعترضت أخرى على هذا الكلام، وقالت: الكلام الحسن مع قوة الحقّ أفضل من كلام خشن وسيّئ، نحن قد لا نكون مثاليين في تصرفاتنا، فلنكن غير سيّئين في كلامنا. وردّت (أم علي) على الكلام المتعلّق بردّ المسيء بمثله: الصمت أفضل ردّ للمسيء، فالصمت مع ابتسامة خفيفة تزيد المسيء حيرة، فالأواني الفارغة تحدث ضجة أكثر من الأواني الممتلئة، وكذلك البشر ذوو العقول الفارغة يحدثون ضجة، فلماذا نضيّع وقتنا بالمجادلة معهم. وقالت (أم سجاد): نُحسن الردّ لنفوّت الفرصة على الشيطان أن يفرّق بيننا، فكلّ إساءة لو تُقابل بمثلها لتحولت المجتمعات إلى ما يشبه الغابات، فنحن دستورنا القرآن الكريم، وعلينا أن نمتثل لقول الله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)/ (البقرة:83)، فالقول الحسن داعٍ لكلّ خلق جميل وعمل صالح، والملائكة تُحصي الناس على أقوالهم، فقال الله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)/ (ق:18). فالكلام الحسن يجلب لنا محبة الناس، ويجازينا الله على ما قُلنا وعلى ما فعلنا، وشكراً لكنّ على مجيئكنّ لتأدية الواجب معي، وقلنَ الحاضرات: عفواً، لقد استمتعنا واستفدنا كثيراً من هذا الحديث.