مَذهَبُ التَّقِيَّةِ بَينَ الشِّيعَةِ والسُّنّة

إيمان حسون الطائي
عدد المشاهدات : 188

التقية عبارة عن المداراة مع مَن يخاف سطوته على نفسه من قتل أو ضرر أو على دينه من الذّهاب به، أو على عرضه، وعليها العقل والفطرة المستقيمة، وكذلك النقل من الكتاب والسنّة وسيرة الصحابة، والمرء مجبول على استعمالها، يسميها بعضهم مداراة، وبعضهم الآخر يسمّيها عقلاً معاشياً، وقد تظافرت عليها نصوص الكتاب والسّنة لما فيها من الأدلة الكافية على مشروعيتها، ووجوبها عند الضرورة، قال الله (عزّ وجل): (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ..)/ (آل عمران:28) إلى قوله تعالى: (..إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً..)/ (آل عمران:28). إنّ الله (سبحان الله) نهى المؤمن عن أن يتخذ الكافر وليّاً، ثمّ منَّ عليه بإطلاق الرخصة له عند التقية في الظاهر، وأن يدين لله تعالى في الباطن بخلاف ما يُظهر لمَن يخالفه للمستولين على الأمة، والقرآن الكريم فيه غنى وكفاية عن مشروعية التقية وجوازها، قال الله (عزّ وجل): (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ..)/ (مريم:48)، فإنه (عليه السلام) بعد أن هدّده قومه بقولهم كما جاء في كتاب الله (عزّ وجل): (..لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)/ (مريم:46)، فاعتزلهم وتباعد عنهم حيث كانت مصلحة نفسه ودينه، ولمّا كان الصلاح في هذا التباعد مدحه الله (عزّ وجل) بقوله تعالى: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا)/ (مريم:49). وكذا إنّها من شرع الرسول (صلى الله عليه وآله) فمَن تفحّص عن أحوال النبي (صلى الله عليه وآله) مع قومه يرى أنه (صلى الله عليه وآله) كان يعاشرهم بالمداراة، ويسالكهم بالتقيّة وترك المعاداة والمحادّة، وفي ذلك دلالة واضحة على أنّ التقية من عمل المرسلين وشعار الصدّيقين عند خوفهم مِن إظهار الدّين، وسار على منهجهم طائفة الشيعة الإماميّة، فالتقيّة عندهم من ضرورة مذهبهم آخذين بذلك عن أئمّتهم، فكان مذهب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في التقية أنّه (عليه السلام) قد أباح لشيعته أن ينالوا منه إذا اضطّروا إليه، ففي رواية احتجاج أمير المؤمنين (عليه السلام) على الطبيب اليوناني قال: «وآمرك أن تستعمل التقيّة في دينك فإنّ الله (عزّ وجل) يقول: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)(1)، وقد أذنت لكَ في تفضيل أعدائنا علينا إن ألجأك الخوف إليه، وفي إظهار البراءة منّا إن حملك الوجل إليه،.. فإنّ تفضيلك أعداءنا علينا عند خوفك لا ينفعهم ولا يضرّنا، وإنّ إظهارك براءتك منّا عند تقيّتكَ لا يقدح فينا ولا ينقصنا،..».(2) أمّا علماء العامّة أنقسموا فيها فريقين، فمنهم مَن عمل بها حفظاً للنفس عن الأذى، ففي إحياء العلوم - للغزالي - إنَّ جملة من الفقهاء إذا دخلوا على الحجاج بن يوسف الثقفي كانوا ينالون من علي (عليه السلام) تقرّباً إليه، وخوفاً من شرّه، منهم عامر الشعبي فقيه أهل الكوفة، وقال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ)(3). الآية دالة على أنّ التقية جائزة عند الخوف.(4) والفريق الآخر قالوا: إنّ التقيّة نفاق في الدّين، وترويج للضلال وطعن في عصمة الأنبياء، وهذا القول غلط موضوعاً وحكماً؛ أمّا موضوعاً؛ فلأنّ النفاق عبارة عن التظاهر بالحقّ مع انطواء القلب على الباطل كما في قوله تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)/ (البقرة:14)، وهذا بخلاف الاتّقاء من الأعداء، فإنّ المؤمن يتظاهر خوفاً، ولكن قلبه منطوٍ على الحقّ، كما في مؤمن آل فرعون، وفي عمار بن ياسر الذي كان يكتم إيمانه، وذلك في كتاب الله: (..إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ..)/ (النحل:106). وأمّا من حيث الحكم فإنّ التقية من شرع المرسلين إذا دعت إليها الضرورة، وانتفت القدرة على إظهار الحق، فكان اللّازم حينئذ التقية؛ لأنّ في المداراة مع أهل العناد مصلحة للعامة واجبة الرعاية، ومن المداراة مع الكفار فِرار النبي (صلى الله عليه وآله) من بينهم إلى الغار، وكذلك قبول الصلح مع المشركين عام الحديبية؛ حقناً لدماء المسلمين، وكذا رضاء أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بالتحكيم، وهو يعلم أنّ معاوية من الظالمين، وقبوله حكومة أبي موسى وهو من الضالين، فإنّ جميع هذه الأمور التي وقعت عن مصلحة عامّة دالّة على التقية. ............................. (1) (آل عمران:28). (2) مستدرك سفينة البحار: ج10، ص422. (3) (المائدة:3). (4) تفسير الرازي: ج11، ص137.