وُجُوبُ الجِهَادِ الابتِدَائِيّ
إنّ الموقف الإسلامي في القرآن الكريم لمواجهة ردود الفعل الجاهلي ضدّ مسيرة دعوة التوحيد يتمثّل بالجهاد، فالجهاد فرض مكتوب لا خلاف فيه بين المسلمين عامّة فضلاً عن علماء الطائفة، حيث قالوا بوجوب جهاد المشركين بعد امتناعهم عن قبول دعوة التوحيد. في القرآن الكريم أدلّة كثيرة على وجوب الجهاد، وإنّ أصرح لفظة وأقواها دلّت على وجوبه هي لفظة (كُتب) الواردة في قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ..)/ (البقرة:216). وآيات الذكر الحكيم خير دليل على وجوبه ابتداءً ودفاعاً، وكذا ما دلّت على سيرة رسول الله(صلى الله عليه وآله) من خلال الوقائع التاريخية للمعارك والغزوات التي قام بها رسول الله(صلى الله عليه وآله) في حياته الجهاديّة، ففي مرحلة كان جهاداً ابتدائياً، وفي مرحلة أخرى كان جهاداً دفاعياً بحسب المراحل المتطلبة والمستدعية، والظروف التي شُرّع نوع الجهاد على ضوئها. إنّ الابتداء والدفاع حالتان يقرّرهما الواقع الفعلي للحدث من زمن وقوعه، ولكلّ منهما أدلّة في القرآن الكريم وسيرة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فالنصّ القرآني في سورة البراءة: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)/ (التوبة:36)، يحثّ المؤمنين على بَدء المشركين بالقتال؛ لأنّهم سبق وأن خلقوا الأسباب والدوافع الحقيقيّة، والمبرّرات الشرعيّة والعرفيّة لهذه البدءة من قِبل المؤمنين، وتعبير القرآن الكريم عن عمل المشركين هذا وتسميته بالبدءة إشارة إلى البدءة بالأسباب والمبرّرات والدوافع، وهي غير البدءة في ساحة معركة بدر وكذا في معركة خيبر، فالسبب الذي أدّى إليها هو خيانة اليهود، ونقض عهدهم الذي أبرموه مع المسلمين بعدم الانضمام إلى المشركين ومناصرتهم في حربهم مع المسلمين في حرب الأحزاب، فنقضوا العهد وانضمّوا إلى صفوف المشركين ضدّ المسلمين، فما إن انتهى رسول الله(صلى الله عليه وآله) من حرب الأحزاب تحوّل مباشرةً إلى حرب اليهود في معركة خيبر جزاءً بما فعلوه من خيانتهم ونقض عهدهم، فالمسلمون في هذه المعركة لم يكونوا -وهم البادئون بالهجوم على حصون اليهود وقلاعهم- في حالة دفاع، بل كان الجهاد فيها ابتدائيّاً. إنّ رفع الفتنة عن طريق الدعوة إلى التوحيد وكف بأس الذين كفروا (أيّ قوّتهم) هي الأحقّ في مشروعيّة الجهاد الابتدائي قال الله(عزّ وجل): (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)/ (البقرة:127)، وكذا قوله تعالى: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا)/ (النساء:84)، ولن تنتهي الفتنة بما لها من مصاديق عديدة ومتنوّعة إلّا باستئصال كلّ الكفار المهاجمين منهم وغير المهاجمين، ولن يكفّ البأس إلّا بتطهير الأرض من لوثهم ورجسهم، ولن ينتهي ذلك لو اقتصر المسلمون على القتال الدفاعي؛ لأنّ شأن الأعداء هو المقاتلة إمّا بالقوّة وإمّا بالفعل كما قال الله(عزّ وجل): (..وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا..)/ (البقرة:217)، وأمر الله(سبحانه وتعالى) المؤمنين أن يبدؤوا بتطهير الأرض منهم بالأقرب فالأقرب، وقال الله(عزّ وجل): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ)/ (التوبة:123).