رياض الزهراء العدد 103 شمس خلف السحاب
أُمنِيَاتٌ فِي زَمَنِ الانْتِظَار
كالحلم عندما يدغدغ العيون الناعسة، وكعذب الماء في قيض شمس لاهبة، وكالنسمة الطيبة عندما تصافح الوجوه المتعبة، تنتظره القلوب وتترامى الأماني، وعلى طرف اللّسان تكمن الصلوات وتُتلى الدعوات وتختنق النبرات والعبرات على أمل الظهور الميمون لدولة العدل الإلهيّة، حيث تشتد الحاجة إلى ذلك الظهور الميمون بعد بحار الدم المراق التي تجري على أرض البسيطة من دون هوادة. فكان لابدّ للمكلّف في زمن الغيبة من القيام بجملة من الأعمال والأفعال لتعجيل الظهور، فلقد ورد في رسالته(عجّل الله تعالى فرجه الشريف) الشريفة إلى الشيخ المفيد قوله: "ولو أنّ أشياعنا وفقّهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حقّ المعرفة".(1) من هنا كان لابدّ لنا من الغور بالحديث حول أهم الخطوات الواجب اتّباعها من قبل المكلّف في زمن الغيبة، وقد كان أولها انتظار الفرج، حيث يندرج لمعنى الانتظار الحقيقي ثلاثة معانٍ، يتلخّص المعنى الأول في أن يكون الانتظار بمثابة نقطة مشرقة تتجلّى في حياة الإنسان لتتجسّد حركته باتجاه تلك الغاية لتُشرق القلوب دائما ببذور الأمل والراحة حتى في أحلك الظروف التي قد يمرّ بها العبد. وفي هذا المعنى الرائد فإن الانتظار يعالج مشكلة اليأس والقنوط، والدليل على ذلك أنّ الشيعة كانوا وما يزالون هم الأكثر رفضاً للظلم والطغيان؛ لأنّ في قلوبهم نوراً من انتظار الفرج، وهم الذين يتصدّون للفساد، ويضحّون بأنفسهم قبل غيرهم. بينما يعالج المعنى الثاني لانتظار الفرج أننا عندما ننتظر هذا الفرج نوجّه نظرتنا دائماً إلى القيادة، وإلى مركز القرار، وإلى الولاية الإلهيّة، ونجعل مقياسنا في ذلك الإمام الحجّة(عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، وهذا ما ينعكس على قيادتنا الروحيّة المتمثّلة بالمرجعيّة، وما يفسّر سبب كون القيادة الدينيّة لدى الشيعة هي الأزهد، والأتقى، والأعلم، والأقرب إلى المثل الإلهيّة. ونحن عندما نستعرض القيادات الشيعيّة في العصور الأخيرة، فإننا نجد أشخاصاً ونماذج قلّ نظيرها لتصبح قمماً مضيئة في سماء الدنيا، والسبب في ذلك أنهم يمتلكون قمّة أعلى هي قمّة الإمام الحجّة(عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، وهذه الذروة السامقة والمتكاملة هي التي نعبّر عنهـا بـ (انتظار الفرج)؛ لأن انتظار الفرج جعلنا دائماً نسير نحو القمم المضيئة، ونحلّق حتى نصل إلى الآفاق البعيدة. ليكتمل المعنى الثالث لانتظار الفرج وهو المعنى الأعمق فيما سلف من معانٍ، متجسّداً في أن يعيش كلّ واحد منّا كما يريد لـه الإمام الحجّة(عجّل الله تعالى فرجه الشريف) أن يعيش، فكلّ واحد منّا يحاول أن يجد لنفسه أُنموذجاً يقتدي به، وهذه صفة أصيلة في البشر، فنحن عندما ندرك أنّ إمامنا الحجّة المؤيد من السماء تتجسّد فيه كلّ المثل العليا، فإننا سننتظر خروجه؛ أي نستقبله عن طريق جعل أنفسنا بحيث يرضى عنّا. وفي هذا المجال يؤكد أئمّتنا (عليهم السلام) على أنّ صحيفة أعمالنا تُعرض كلّ يوم على الإمام المنتظر(عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، وأننا بحاجة إليه في كلّ صغيرة وكبيرة في الدنيا، وعند سكرات الموت، وعند النزول في القبر؛ لذا يتحتّم علينا أن نحاول تهذيب أنفسنا أكثر فأكثر، وهذا هو المعنى الأصيل والحقيقي لانتظار الفرج، فهو يعني استقبال الإمام الحجّة(عجّل الله تعالى فرجه الشريف) بالأعمال الحسنة، وتهذيب النفس وتزكيتها عبر برمجة أيام حياتنا، ووضع خططٍ للتطوير والإصلاح، فعن الإمام عليّ (عليه السلام): "..مَن اعتدل يوماه فهو مغبون"(2)، فإذا طبقناه عند ذلك ستفيض أرض المعمورة نعماءها، وسينعم العطاشى بمنهل الماء الرقراق العذب الذي سيملأ البقاع خيراً وعدلاً بعدما غطّاها زمان القحط والظلم والجور. .............................. (1) الاحتجاج: ج2، ص273. (2) مستدرك سفينة البحار: ج10، ص619.