رياض الزهراء العدد 104 أنوار قرآنية
شَذَراتُ الآيَات_ 5
(سَيَجْعَلُ اللَهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا * وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا)/ (الطلاق:7-10). بعد أن بيّن الله تعالى تكاليف البشر ومسؤولياتهم وأوضح إنما هي بقدر طاقاتهم وبقدر ما أعلمهم به، فمَن لا يعلم حكماً ليس عليه مسؤوليّة تجاه ذلك الحكم. ففي نهاية المطاف يبشرهم بقوله: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) أيّ لا تجزعوا ولا يكن ضيق العيش سبباً لخروجكم عن جادّة الصواب، فحذار أن تقطعوا حبل الصبر. كانت هذه الآية بمثابة بشرى للمسلمين الذين كانوا يعيشون ضنكاً ماديّاً إذ تبعث الأمل في نفوسهم وتبشر الصابرين. بعد أن ذكر القرآن الكريم وظائف كلّ من الرجال والنساء عند الطلاق حذّر العاصي والمتمرّد من العواقب الوخيمة التي تنتظرهما، قال (عزّ وجل): (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا).(1) في هذه الآية موعظة وإنذار وتبشير، إذ تؤكد على التمسك بما شرّع الله (عزّ وجل) من الأحكام ومن جملتها أحكام الطلاق والعدّة.(2) في كثير من الموارد يأتي القرآن الكريم على ذكر الأمم السابقة بعد إيراد سلسلة من الأحكام والتكاليف لكي يرى المسلمون عاقبة كلّ من (الطاعة والعصيان) في تجارب الماضي، وتأخذ القضيّة طابعاً حسياً ولم يخرج القرآن الكريم في هذه السورة عن هذا النهج، والمقصود (بالقرية) هو محل اجتماع الناس, وهو أعم من المدينة والمراد هو أهلها، (عَتتْ) من مادة (عُتوُ) على وزن (غُلُو) بمعنى التمرد على الطاعة، و(نُكْر) على وزن (شُكْر) ويعني العمل الصعب الذي لم يسبق له مثيل، (حساباً شديداً) أي الحساب الدقيق المقرون بالشدة والصرامة, ويعني العقاب الشديد الذي هو نتيجة الحساب الدقيق. وهو على كلّ حال إشارة إلى عاقبة الأقوام السابقة المتمردة والعاصية في هذه الدنيا, والذين هلك بعضهم بالطوفان, وبعضهم بالزلزال, وآخرون بالصواعق والعواصف, وأمثالهم حل بهم الفناء وبقت آثارهم عبرة للأجيال بعدهم؛ لذا يضيف تعالى في الآية اللاحقة: (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا)، أي خسارة أفدح من خسران رأس المال الذي وهبه الله تعالى, والخروج من هذه الدنيا ليس فقط بعدم شراء المتاع، وإنما الانتهاء إلى العذاب الإلهي والدمار. ويرى بعضهم أن (حساباً شديداً) و(عذاباً نكراً) يشيران إلى يوم القيامة، وعدّوا الفعل الماضي من باب الماضي المراد به المستقبل, لكن الآية تحدّثت عن يوم القيامة في الآيات اللاحقة, فذلك يدل على أنّ المراد بالعذاب هذا هو عذاب الدنيا. ثم يشير تعالى إلى عقابهم الأُخروي فيقول: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) أي عذاباً مؤلماً مخيفاً فاضحاً أعده لهم منذ الآن في نار جهنم. بعدها تقول الآية: (..فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا..) يعني أن الفكر والتفكر من جهة, والإيمان والآيات الإلهية من جهة أخرى تحذركم وتدعوكم لملاحظة مصائر الأقوام السابقة المتمردة التي عصت أمر ربّها, وتدعو إلى الاعتبار بذلك وتحذر من أن تكونوا مثلهم, فقد ينزل الله (عزّ وجل) عليكم غضبه وعذابه الذي لم يسبق له مثيل. بعد ذلك يخاطب الله تعالى المؤمنين الذين يتفكرون بآيات الله بقوله: (..قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا) وهو الشيء الذي يوجب تذكركم.(3) استنتاج لما تقدّم أن هذه الآية خوطب بها المؤمنون ليأخذوا حذرهم ويقوا أنفسهم من أن يعتوا عن أمر ربّهم ويطغوا عن طاعته فيبتلوا بوبال عصيانهم وخسران عاقبتهم كما ابتليت بذلك القرى السابقة الهالكة. وقد وُصف المؤمنون بأولي الألباب استمداداً من عقولهم على ما يريده منهم من التقوى، وأنّ العتو والاستكبار عن أمر الله تعالى يعرّضهم لحسابه.(4) ............................... (1) الأمثل في كتاب الله المنزل: ج18, ص692-272. (2) تفسير الميزان: ج19, ص337. (3) الأمثل في كتاب الله المنزل: ج18، ص272-273. (4) تفسير الميزان: ج19، ص336-339.