عُصْفُورَةٌ فِي عُشِّها الذَّهَب

د. بيان العريّض
عدد المشاهدات : 236

في محفل ثقافي، فاجأتني ابنة ذات الأربعة عشر ربيعاً، وجدتها صبية أنيقة في ستر وعفاف، رزينة الحضور والمنطق، تتحدث بثقة ووعي، تسبق عمرها وتبزّ أقرانها في تعدد مزاياها الحميدة ومواهبها، ما إن اعتلت المنصة خطيبة حتى خطفت الأبصار وهفّت إليها نفوس الحاضرات إعجاباً، مردّدات أكثر من مرة (اللهمّ صلِّ على محمد وآل محمد) وما إن تجاذبت أطراف الحديث معها ومع والدتها حتى تفتحت خزانة الجواهر الدفينة لـ (زهراء)، وهذا اسمها الذي زادها ألقاً وبهاءً، وأخذت استعلم من الأم كيف وفقها الله (عزّ وجل) لبناء هذا الغرس الطيب وإعلائه فقالت: منذ أن كانت (زهراء) جنيناً في أحشائي اخترت أن أسميها باسم مولاتي فاطمة الزهراء (عليها السلام) إن رزقني الباري بابنة، وأخذت أرعى نموّها بالدعاء وقراءة القرآن الكريم، وما إن حلّت بيننا وليدة حتى أغدقنا عليها حبّنا ورعايتنا، من اختيار الاسم الجميل الحسن المبارك، كما أوصانا سيّدنا الإمام السجاد (عليه السلام) في أول حقوق الولد على والديه، ثم أحطناها بكلّ وسائل المعرفة المتاحة والمباحة والتي لا تخلّ بالتزامنا الإسلامي من توفير لعب وقصص ورسوم واحتياجات تنمّي مداركها الأولى بنسق يتوافق مع مستقبلها كابنة وأخت وزوجة وأم، ولم نبخل عليها بالسؤال والإجابات في جرعات بحسب تطورها العمري والذهني، وهنا بادرت زهراء فرحة بما قالته أمها لتحدثني أكثر وتزيد من شوقي لسماع هذه التجربة الإيجابية في حياتنا الأسرية: منذ وعيت وأنا أتلقى الحبّ والثقة من والدي، فلم أشعر بالنفور من الحدود التي وضعوها لي ما بين الحلال والحرام، لقد رغبوني بكلّ حلال طيّب ونفرت نفسي من كلّ خبيث محرّم، وتاقت نفسي للاقتداء بمولاتي سيّدة نساء العالمين (عليها السلام) التي أتشرف بحمل أحد أسمائها الجليلة، وأخذت أقرأ عنها وعن أهل بيتها الكرام القصص والروايات، وأسأل والدتي عمّا يستعصي عليّ فهمه. سألتها مقاطعة: هذا الحال في البيت في السنين الأولى من الطفولة، فما هي الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الأسرة عندما خرجت زهراء من طوق البيت إلى المدرسة؟ تبسّمت الأم وأجابت: قبل المدرسة كان هناك التلفاز والمذياع ووسائل أخرى تبثّ مؤثراتها في حياتنا، وكما وفقنا في اختيار ما تشاهده زهراء منها، كذلك وفقنا ولله الحمد في اختيار المدرسة والرفيقات المناسبات. ضحكت زهراء واستدارت إلى والدتها مذكرةً إياها: تذكرين أمي الحبيبة كيف كنتِ دائمة الاستفهام والحضور إلى المدرسة ومتابعة تفوّقي الدراسي، حتى أصبحتِ الأم المثالية عند إدارة المدرسة، أخذت أم زهراء أطراف الحديث: نعم أذكر وهذه إحدى واجباتي كأم أن أتابع أحوال أولادي ونجاحهم وإخفاقهم لا سمح الله، ثم إنّ هذه التجربة تثبت صدق القائل: لا تربط الجرباء حول صحيحة خوفاً على الصحيحة أن تجربا سألتها: كيف أصبحت رسّامة ومشروع كاتبة وخطيبة في المناسبات المدرسية والنشاطات الدينية والاجتماعية؟ قالت زهراء فرحة بما أغدقت عليها من مسمّيات: بعد أن وضعت أسرتي الأعمدة الأساس في شخصيتي منذ الطفولة أخذت تظهر ملامح تميّزي في المدرسة المتوسطة، ومن خلال رعاية إدارة المدرسة لمبادرات الطالبات ومهاراتهنّ أخذت تتوضح هواياتي وتتبلور اتجاهاتي. قلت لها مقاطعةً: هذا يعني أنك حدّدت ما تريدين أن تكوني عليه مستقبلاً؟ أجابت بثقة: تفوّقي العلمي يجذبني نحو الطب أو الهندسة، ومواهبي تأخذني إلى الإعلام والاتصالات، وسنرى في قادم الأيام لمَن ستكون الغلبة. سألت عصفورة الذهب: والتزامك الديني زهراء ألن يعيق تقدّمك لهذين المضمارين؟ قالت باندفاع صادق: أبداً بل على العكس، إنّ صلاتي وصومي ومواظبتي على تلاوة القرآن الكريم جعلني أدخل دورات دينية تثقيفية متنوعة أضافت لي الكثير من الثقة بالنفس والاستقرار، وحسن الاختيار. إنّ التزامي وقراءاتي حثّاني أكثر للاقتداء بنماذج إسلامية مشرّفة، جعلت لحياتنا معنى وتركت لنا آثاراً هي خارطة في طريقنا للنجاح والنجاة بإذن الله. غادرت القاعة وأنا أكثر إعجاباً وانبهاراً بنموذج تربية إسلامية ليس مستحيل التكرار في أسرنا، بل هو واجب ربّاني أن نثري حياتنا بسرب عصافير ذهبية إذا ما أعددنا أعشاشاً ملائمة لها.