رياض الزهراء العدد 105 الملف التعليمي
التَّعلِيمُ المُسَرّعُ.. بَعَثَ الطُّلابَ مِن جَدِيد
من واقع المجتمع العراقي الذي عانى من نكبات كثيرة استنزفت طاقات أبنائه، فمنهم مَن هاجر ومنهم مَن جرفته ظروف الحياة إلى الهاوية؛ ليتركوا مقاعد الدراسة، فلم تسمح ظروف حياتهم الاجتماعية أو الاقتصادية القاسية بأن يكملوا دراستهم أو حتى أن يلتحقوا بالمدارس أسوة بأقرانهم، وبفسحة أمل طُبّق نظام (التعليم المسرع) في سنة 2007م داخل محافظة كربلاء المقدسة، ونفذت هذا المشروع في البداية منظمة اليونسيف العالمية لتتبناه فيما بعد وزارة التربية والتعليم العراقية. ولمعرفة الجوانب المهمة المختصة بهذا الموضوع التقينا بالسيد (علاء حسن الصافي/ مدير التخطيط التربوي في مديرية تربية كربلاء المقدّسة) وتحدث في البداية عن نظام هذا التعليم قائلاً: التعليم المسرّع هو تعليم لا نظامي، يهدف إلى إعادة المتسربين من الدراسة الابتدائية الذين أجبرتهم ظروف حياتهم الاجتماعية والمعيشية الصعبة إلى ترك دراستهم، ويشمل الفئة العمرية ما بين (12ـ18) سنة من الذكور والإناث، وطُبّق هذا التعليم في المناطق المنكوبة التي تعاني من تسرّب الطلاب من المدرسة وفي مختلف مناطق العراق، وفي دول أخرى كالهند ومصر، ويستمر لثلاث مراحل، المرحلة الأولى تشمل الصف الأول والثاني الابتدائي والثالث والرابع الابتدائي في المرحلة الثانية، والرابع والخامس الابتدائي في المرحلة الثالثة، ويكمل الطالب دراسته في التعليم المسرّع بحسب السنة الدراسية التي توقّف عندها، وتكون مناهجهم مكثفة لتتناسب مع مستواهم الفكري، وفي البداية افتتحنا ثلاثاً وعشرين مدرسة في عموم المحافظة، وعدد المدارس الآن أربع عشرة مدرسة (أربع للإناث وعشر للذكور) وقوانينها خاضعة لنظام وزارة التربية والتعليم. واستفهمناه كذلك عن مدى نجاح الطلبة وإقبالهم على هذا التعليم، فتحدّث مجيباً: في بداية كلّ سنة دراسية نعلن عن قبول الطلاب عن طريق الجوامع، وعن طريق الإعلانات واللافتات والإذاعة، فكثير من الطلبة أفادهم هذا التعليم لينخرطوا في مقاعد الدراسة، فأكثر من سبعة آلاف تخرجوا من هذا التعليم، وكثير منهم يواصلون دراستهم الجامعية في الهندسة والتربية وغيرها من المجالات الدراسية، وقد لبّى هذا التعليم مبتغاه في التقليل من نسبة الجريمة في محافظة كربلاء المقدسة، وعند نفاد المتسربين في بعض المناطق نغلق بعض المدارس فيها، ونفتح مدارس في أماكن أخرى، ونحن نكثف كلّ جهودنا لجعل الطالب يستفيد ويستمر في التعليم حتى بعد إكماله الدراسة، فنعمل على فتح مدارس أكثر ولو اشتمل كلّ صف على خمسة طلاب، ونقدّم تسهيلات في الظروف الخاصة حتى نقبل في بعض الأحيان الطلاب من العمر غير المحدّد (أصغر بسنتين أو أكبر بسنتين)، ولا نلتزم بتعليم المنهج المقرّر، فنسعى إلى تعليم مهنة للطلبة كالحلاقة والخياطة، حتى في حين عدم توافر الأدوات اللازمة بمجهودنا الشخصي نوفّرها لهم كي يحسّنوا من مستواهم المعيشي، ولزرع روح الوطنية فيهم علمناهم كيف يصنعون العلم العراقي، ودأبنا وبجهود متكاتفة لدعمهم، فمن المبالغ التي نحصل عليها من الدورات نشتري هدايا رمزية للطلاب لتشجيعهم على النجاح والتفوق والاستمرار، ونسبة النجاح جيدة نسبة إلى تعليم لا نظامي كهذا. وسألناه عن إمكانية الملاك التدريسي ومؤهلاتهم فأجاب عن هذا الأمر: المعلمون والمعلمات التحقوا بدورات مختلفة بهذا الشأن، ليتعلموا كيفية معاملة هذه الفئة العمرية وبخاصة أنّ هذه الفئة تعرضت لظروف الحياة القاسية، فيتم التركيز على تربيتهم وتعليمهم الدين الصحيح، وبناء شخصيتهم، فيُنشئ المعلم علاقة طيبة مع الطلاب ليتفهّم احتياجاتهم ومشاكلهم وإعانتهم لمجابهة ظروفهم الصعبة، ولم تقتصر الدورات على طرق التربية والتعليم، بل تعدت هذا الجانب لتشمل دورات صحية للكشف عن الأمراض المختلفة والمنتشرة، ولتوعية الطلبة في عدة أمور منها النظافة الشخصية، وتتم هذه التوعية عن طريق منسق صحي (معلم أو معلمة)، وفي كلّ سنة تنشأ دورات صحية، وكلّ هذا يصبّ في مصلحة الطالب. وفي مسك ختامنا مع السيّد مدير التخطيط التربوي سألناه عن الصعاب التي تواجههم، والرؤى المستقبلية لتطوير هذا التعليم، فأجابنا متحسّراً: نحتاج إلى اهتمام ودعم معنويّ أكثر ممّا هو مادي، ومع ذلك الاثنان يحقّقان الأهداف المنشودة في احتضان هذه الفئة من الناس، فأيّ تسهيلات تسهم في جعلهم يستمرون في الدراسة كتوفير المستلزمات الضرورية وفي الدرجة الأولى طبع الكتب ووسائل النقل ولو بأسعار مدعومة، ونشكر مطبعة دار الكفيل التابعة للعتبة العباسية المقدّسة التي طبعت لنا المناهج وبأقل الأسعار، وتهيئة المناخ الملائم لاحتوائهم وبخاصة توفير الأبنية المدرسية الخاصة بالتعليم المسرّع، والحمد لله نحن من المحافظات التي اعتنت بصورة جيدة بطلاب هذا التعليم، ونجتهد لاستمراره إلى أن نقضي على المتسربين نهائياً، ونوجّه رسالة إلى كلّ الجهات المعنية في جعل هذه الفئة من أولويات قبولهم في تعييناتهم. وتوجهنا إلى مدرسة الاهتداء للتعليم المسرّع للبنات في ناحية الحر لنعايش أهدافهم ومعاناتهم، والتقينا بعضو اللجنة الفرعية على مدارس التعليم المسرّع ومديرة المدرسة الست (ميعاد حسين سهر)، وسألناها عدّة أسئلة بخصوص هذا الشأن: حدّثينا في البداية عن مهام اللجنة التي تنتمين إليها: عمل اللجنة يكمن في تهيئة الأعمال المتعلقة بالتعليم المسرّع من فتح مدارس أو غلقها واحتياج الكتب، ومناقشة القضايا بحسب أولوياتها. كلّمينا عن الكيفية التي يتم بها قبول الطالبة في المدرسة، وما هو عدد طالبات مدرستكم؟ نحدّد مستوى الطالبة بحسب المرحلة التي توقفت عندها، وذلك بأن تجلب لنا وثيقة رسمية من المدرسة التي كانت تدرس فيها لتثبت ذلك، وفي حالة عدم توافر هذا الشرط ونتيجة للظروف الأمنية للبلاد يتم اختبار الطالبة ليحدّد مستواها الدراسي لتلتحق بالمستوى المناسب لها (الأول أو الثاني أو الثالث)، أمّا عدد الطالبات في مدرستنا فهو تقريباً خمسون طالبة. ما هي طبيعة المناهج التي تدرّس للطالبات؟ وما هو مدى تفاعل الطالبات مع هذه المناهج؟ المناهج متطورة تتناسب مع عقلية الطالبات الناضجة، واستجابة الطالبات جيدة ونجاحهم كذلك جيد، ولكن هناك بعض الحالات الخاصة، فمثلاً لدينا طالبة مريضة بالتوحد، فنحاول أن نساعد هذه الحالات قدر الإمكان، ولاحظنا تطوراً واستجابة من ناحيتها، ولدينا طالبات في المدرسة مجدّات ومتفوقات، ونحن بالعادة نخرج في التدريس عن المناهج المقررة، فنتيجة للظروف الاقتصادية العسيرة للطالبات نحاول تعليمهنّ حرفة كالحياكة والتطريز وغير ذلك من الأمور التي تستفيد منها في حياتها اليومية. أخبرينا عن معاناتكم بصورة عامة أكثر شيء يعيقنا في الدرجة الأولى هو طبع الكتب، وعدم توافر الأبنية اللازمة، فحين زيارتكم للمدرسة شاهدتم أننا نتشارك مع مدرسة أخرى وفي وقت الدوام نفسه. والتقينا ببعض معلمات المدرسة، وتحدّثنا مع الست (نعمة عباس/ معلمة فنية)، وتكلمت عن تجربتها في التدريس قائلةً: القراءة والكتابة مهمة، فنحن نلتزم بتعاليم رسولنا النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الكرام (عليهم السلام) في طلب العلم، فإضافةً إلى ذلك نعلّم الطالبات مهنة الخياطة والحياكة والاستفادة من أشياء بسيطة في المنزل لا نحتاجها لنستفيد منها في صناعة أشياء تفيدنا، ونعلمهم أشياء تعلّمناها من جدّاتنا، والمتفوقات نشجعهم عن طريق تقديم هدايا بسيطة لهم. والتقينا بمعلمة الإسلامية الست (منى هادي) وتنهدت قائلةً: إنّ أكثر ما يميّز هذا التعليم هو إحساسنا بإنسانيتنا بصورة كبيرة، فنتفاعل مع الطالبات ومشاكلهنّ، ونعلمهنّ تعاليم ديننا الصحيحة، فمنهج الإسلامية هو منهج فقهي يفيدهم في حياتهم اليومية. وعايشنا الكثير من الطالبات لنتعرّف على ظروفهنّ في المدرسة، فطمحت (ن-ق) أن تكون طبيبة أو ممرضة لتخدم مجتمعها، وأضافت على حديثها: الظروف الصعبة للبلد اضطرتني إلى ترك المدرسة في السابق، والآن أنا أريد أن أحقّق طموحي في إكمال دراستي. ورجعت (م-هـ) إلى مقاعد الدراسة بعد أن هاجر زوجها، وتطمح أن تكون ممرضة في المستقبل. وبعد استشهاد زوج (هـ-ج) في أثناء قتاله ضدّ كيان داعش رجعت إلى الدراسة، وحين قبول أهلها بإكمال دراستها تريد أن تصبح معلمة مستقبلاً. وجدنا في جميع مَن التقينا بهم تنهيدة في قلوبهم، ولمعة دموع في عيونهم، وغصة ألم في صدورهم، فإن أجمل ما فيهم تعاونهم وحبّهم وتعاطفهم مع هؤلاء الطلاب الذي أُعطوا فرصة كي يبعثوا إلى الحياة من جديد في تعويض فرصة تعليمهم، فمن أجل توفير بيئة سليمة لهم، فليمدّ الجميع أيادي عطائهم، فبهذا نرضي الله (عزّ وجل) ونخدم مجتمعنا.