حِصْنُ العَقِيدَةِ يزلزل نَعْشَ الفَقْر
الفقر كلمة أرقت العيون وأذابت شغاف القلوب، وعوز الفقر يحفر في الوجوه أخدوداً يسفر عن شيخوخة مبكرة, فتذهب بنضارة الشباب, ويحيك في النفوس الخوف من الغد المجهول, ويبذر الفقر في أرض المجتمعات ليثمر عن شجرتين, إحداهما توطّن نفسها للشرّ وتأخذ الفقر وسيلة لها تبرّر بها أفعالها الشنيعة, وتصرّ على أن تعيث في الأرض فساداً, فتلازم روحها الوسواس الخنّاس. والشجرة الأخرى وطّنت نفسها للفقر وجعلتهُ قدرها الذي لا مفرّ منه، واقتنعت بما قسمه الله تعالى لها، وعملت على إغناء حياتها الأبدية والاستعداد لها بالزراعة والتشجير؛ لتفوز بجنة عالية قطوفها دانية, فالدنيا مزرعة الآخرة. ويعدّ الفقر من أهم عوامل انهيار المجتمعات لِما يحملهُ في جعبتهِ من أدوات تخطو بهِ إلى الجهل والمرض، وتعدو به إلى عالم الغفلة والنسيان, أمّا شجرتنا المثمرة التي اتخذت من الفقر سلّماً لرقي الأرواح إلى الكمال فتمثلت بالشخصية الإسلامية الواعية التي تمتلك عقيدة دينية راسخة قادرة على مواجهة الصعاب, والتي برز دورها حينما تعرّضت البلاد إلى غزو وحشي استهدف فكر الأمة الإسلامية بمختلف أطيافها ومذاهبها لسحق الأخضر واليابس تحت مُسمّى (الدولة الإسلامية)، وهي فرقة ضالة اتخذت من الدين غطاءً شرعياً لحركتها المشينة ولفتاويها الضالة التي ما أنزل الله تعالى بها من سلطان, ساعدها في ذلك أبواق الفضائيات المأجورة التي صورتها على أنها قوة كبيرة هائلة لا يمكن القضاء عليها أو مقارعتها, فكانت هناك وثبة من أناس نعدّهم من الفقراء، وهم في الحقيقة أغنى الأغنياء لِمَا يمتلكونه من بصيرة نافذة في مقارعة هذا العدوان ودحرهِ, وعندما استقرأنا سبب هذا الاندفاع والانجذاب إلى حماية تراب الوطن ومقدّساته ثبت لنا وبقوة رسوخ جذور القاعدة الذهبية في نفوسهم, وهو حبّ الإمام الحسين (عليه السلام) وطريقه الذي استنهض همتهم لمواجهة هذا الغزو الداعشي الذي هو ثمار لبذور أبناء يزيد وأحفادهِ، ومن هذه الشخصيات التي تشرفنا باللقاء معهم زوجة الشهيد عباس شراد عبد الحسين/ التي تحدّثت مشكورةً عن سبب اندفاع زوجها في مقارعة داعش قائلةً: لا نمتلك من سبل العيش الكثير, ولكننا ننعم برفاهية الرضا التي يفتقدها الكثير, وكانت سلوتنا الدائمة لعوزنا هي لو أنّ هذه الدنيا الغرورة عزيزة على الله (عز وجل) لنعم بها أهل البيت (عليهم السلام), ولكنها معبر طويل للآخرة, وكان عباس معروفاً بدماثة الأخلاق بين الأهل والأقارب, ويرسم دائماً الابتسامة على محيّا كلّ مَن يقابله بروحه الشفافة التي تخترق صعوبة العيش وكدحه فيه, وكان يشدّ الرحال باستمرار إلى أبي الأحرار (عليه السلام) للغوص في بحار عشقه, وعندما صدح صوت المرجعية العليا لفتوى الجهاد سارع عباس للانطواء تحت راية الجهاد المقدّس مع بقية أخوتي الخمسة الذين لم يتوانوا هم كذلك في تلبية النداء, وأخذ بريق الشهادة يلمع في عينيه، وأدركت في حينها أني خرجت من حسابات عباس, وأنه تهيأ للقاء الحبيبة الجديدة التي تربعت على خياله وأحلامه وهو متزيّن بدماء الشهادة وملفوف بعلم العراق, وأمسيت في نفسي أتوجس الخيفة من فقدانه, إذ يعزّ عليّ فراقه، فهو الزوج والحبيب والصديق, ولم أصمت كثيراً وصارحته بما يجول في خاطري, عباس: إلى مَن تتركني وتيتم العيال, فكر في أسرتنا الصغيرة التي تحتاج إلى رعايتك ووجودك الذي لا يعوضه أحد سواك, لكن كلماتي ذهبت في مهب الريح ولا جدوى من الكلام, فصبرت وأنا أحبس دموعي وأتمنى أن يحفظه الباري, ولقد شارك عباس في معارك عديدة منها جرف الصخر، وتمت محاصرته هو ورفاقه لمدة ثلاثة أيام بدون طعام أو شراب, والحمد لله تكلّل جهادهم بالانتصار, وفي أيام إجازته كان يسارع إلى إيجاد عمل يسترزق منه ليسدّ رمقنا وهو يستلهم الصبر من سيرة أهل البيت (عليهم السلام), وعندما عرفت حقيقة سريرة عباس في العزم لنيل الشهادة, ألزمتُ نفسي على مشاطرته في الأجر والثواب، بالصبر حيناً وبالتصبّر أحياناً, و كان وضعنا صعباً للغاية، فتدابير المعيشة تحتاج إلى أيدٍ كادحة ونحن فقدناها بغيابه, ولكننا لم نركع للهوان، وتصبّرنا بمحنة العقيلة زينب (عليها السلام), وانطوت الأيام وتحقّق حلم عباس للفوز بسفر الخالدين, الشهداء الصالحين رجال المرجعية الموقرة. أمّا زوجة الشهيد السعيد/ علي عبد الله فرحان فتحدثت قائلةً: عندما تريد المشيئة الإلهية شيئاً يتحقّق ولو بعد, كان زوجي عليّ (رحمه الله) يصبو إلى واحة غنَّاء, أشجارها وارفة متمثّلة بشخوص الشهداء في واقعة الطف, ويشهد له ذلك نضاله العتيد مع النظام البائد الذي حكم عليه بالإعدام, وكنت متهيّئة لتلقي خبر استشهاده منذ ذلك الوقت, ولكن شاءت الأقدار وتمكن عليّ من الفرار من النظام البائد، وسكنّا (رفحاء) تلك الصحراء القاحلة مع أولادنا الخمسة, ثم ارتحلنا إلى السويد ذلك البلد الذي التجأنا إليه بعد معاناة طويلة, واستمرّ نضال عليّ في إحياء الشعائر الحسينية, وإعلام الناس بمظلومية أهل البيت (عليهم السلام) ودعوتهم إلى سبل الرشاد عن طريق نصحهم بالكلمة والموعظة الحسنة, وبعد السقوط رجعنا إلى عراقنا الحبيب حيث المقدّسات والعيش بقرب وطنٍ ضمّ في ثراه ريحانة رسول الله (عز وجل), وحين صدح صوت المرجعية بنداء الجهاد, رمقني (عليّ) بنظرة يستفهم فيها عن موقفي, فما كان منّي إلّا أن شددت من عزيمته، وأحببتُ أن أتمثل بدور (دلهم) زوجة زهير بن القين الصحابيّ الجليل، وأكون خير عون له بعد الله تعالى, والتحق (عليّ) بفرقة العباس (عليه السلام) القتالية، وقد دأبتُ على مناصرته والوقوف معه في السرّاء والضرّاء, وكان عمله (رحمه الله) هو تفكيك العبوات الناسفة التي يزرعها الطغاة في درّب المجاهدين على مدار سنة وبضعة أشهر, وفي يوم 10/4/2016م نال عليّ ما كان يرمي إليه، وهو نيل الشهادة مستلهماً من واقعة الطف بطولته الفذة, وكانت وصيّته الوحيدة هي بقاء المضيف الذي شيّد حبّاً لابن السيّدة الزهراء (عليها السلام) عامراً, يذكرُ فيه عزاء أهل البيت (عليهم السلام)، فإلى جنة عالية قطوفها دانية رحل الشهيد السعيد عليّ مودعاً هذه الدنيا التي صاحبته بضيقٍ في العيش، وما استطاعت أن تدرس بقاياه إنما سما عليها بركوبه مطايا الخالدين. الخاتمة الفقر هو ظاهرة ملازمة لحياة الشعوب في العالم, ومنذ بَدء الخليقة تباينت المستويات الاقتصادية بين فئات المجتمع الواحد, وعلى الرغم من الدراسات الكثيرة التي سعت إلى تقديم نظريات جادة في معالجة هذه المشكلة ومواجهتها بتقديم نظريات تنموية اقتصادية وبشرية إلّا أنّ عدم وجود الشفافية أدى إلى فشل أغلب هذه الدراسات, ولأهمية المال في حياة المجتمعات ونموها وتطويرها استخدم كأداة ضغط في مختلف أشكال الحروب, وذلك عن طريق فرض عقوبات اقتصادية على الجهة الأضعف سياسياً، ومن أجمل الصور التي ذكرها التاريخ لنا والتي انتهت بنصر الجهة الأضعف سياسياً والأغنى عقائدياً هي الحصار الذي فُرض على الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وآله) وأصحابه في شعب أبي طالب, والذي أماط اللثام عن سرّ العقيدة التي كان يحملها المؤمنون الأوائل في مواجهتهم لأقسى حصار، واليوم شهداؤنا الأبرار يعيدون سيرة هذه العقيدة ويستلهمون منها أنبل الصور، إذ لم يكن ضنك العيش سبباً لتخليهم عن عزيمتهم في مقارعة الباطل.