النُّزُولُ الدّفعِيّ والتَّدرِيجِيّ للقُرآنِ الكَرِيم
القرآن الكريم كتاب مبين نازل من عند الله (سبحانه وتعالى) على مَن أرسله إلى الناس لإنذارهم، ونزل رحمة منه تعالى بعباده خير نزول في ليلة القدر التي فيها يفرّق كلّ أمر حكيم. قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ)/ (الدخان:3)، وقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)/ (القدر:1)، وهذا يدلّ على أنّ النازل هو القرآن الكريم كلّه. ولا يدفع ذلك قوله تعالى: (وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا)/ (الإسراء:106)، وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)/ (الفرقان:32). ظاهر الآيات المباركة وآيات آخر غيرها يدلّ على النزول التدريجي للقرآن الكريم، فالإنزال يختلف عن التنزيل، الإنزال يفيد الدفعة والتنزيل يفيد التدريج، وفي هذا اعتراض من قبل الكافرين على نزول القرآن الكريم تدريجياً، ومعناه هلّا أنزل عليه القرآن الكريم دفعة غير مفرّق، كما أنزل التوراة والإنجيل والزبور. إنّ نزول هذه الكتب السماوية كانت دفعة ومكتوبة في ألواح، والقرآن الكريم إنما نزل عليه (صلى الله عليه وآله) حتى بالتلقي من عند الله (عز وجل) بتوسط الروح الأمين (عليه السلام)، واعتراضهم هذا يريدون به أنّ القرآن الكريم ليس بكتاب سماوي؛ لأنه أقوال متفرقة يأتي بها في وقائع مختلفة وينسبها إلى الله (سبحانه وتعالى)، ولكن جلّ وعلا أجابهم في قوله تعالى: (..كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)، وهذه الآية بيان لسبب نزول القرآن الكريم نجوماً متفرقة. إنّ تعليم علم من العلوم وبخاصة ما كان مرتبطاً بالعمل يفيد حصولاً تاماً، فالفرق واضح بين أن يلقي الطبيب مسألة طبية إلى متعلّم الطب إلقاءً فحسب، وبين أن يلقيها إليه وعنده مريض بما يبحث عنه من الداء وهو يعالجه، فأحسن التعليم وأكمل التربية أن تُلقى هذه المعارف العالية بالتدريج موزعة على الحوادث الواقعة المتضمنة لمساس أنواع الحاجات مبينة لما يرتبط بها من الاعتقاد الحقّ والخلق الحسن والحكم العملي المشروع. فهناك كثير من الآيات بيّنت أنّ نزول القرآن الكريم دفعة واحدة، وبعضها دلّت على النزول التدريجي، وذلك يمكن أن يُحمل على نزول القرآن الكريم مرتين، مرّة مجموعاً وجملةً في ليلة واحدة وهي ليلة القدر، ومرّة نجوماً وتدريجاً في مدة ثلاث وعشرين سنة، مدة دعوته المباركة (صلى الله عليه وآله).(1) فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: "يا مفضل، إنّ القرآن نزل في ثلاث وعشرين سنة، والله (سبحانه وتعالى) يقول: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ..)(2) وقال (عليه السلام): (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ)(3)، وقال (عليه السلام): (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ..)".(4) قال المفضل: يا مولاي فهذا تنزيله الذي ذكره الله (عز وجل) في كتابه، وكيف ظهر الوحي في ثلاث وعشرين سنة؟ قال (عليه السلام): "نعم يا مفضل، أعطاه الله (عز وجل) القرآن في شهر رمضان وكان لا يبلغه إلّا في وقت استحقاق الخطاب، ولا يؤديه إلّا في وقت أمر ونهي، فيهبط جبرائيل (عليه السلام) بالوحي، فيبلّغ ما يؤمر به وقوله (عليه السلام): (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ") (5)).(6) ............................. (1) الميزان: ج15، ص209-216 وج18، ص132. (2) البقرة:185. (3) الدخان:3-5. (4) الفرقان:32. (5) القيامة:16. (6) بحار الأنوار: ج89، 2ص38./ الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله): ج2، ص289.