رياض الزهراء العدد 120 أنوار قرآنية
شَذَرَاتُ الآيَات_ 14
(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا )(النساء:17) بيّن الله تعالى في الآية السابقة مسألة سقوط العقوبة عن مرتكبي الفاحشة إذا تابوا وأصلحوا، ثم أعقب ذلك بقوله تعالى: (..إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا)/ (النساء:16) مشيراً إلى قبول التوبة من جانب الله (عز وجل)، أمّا في هذه الآية فيشير سبحانه إلى شرائط قبول التوبة، فيقول: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ..)/ (النساء:17)، فهنا يجب أن نعرف ماذا تعني كلمة (الجهالة)؟ هل هي الجهل وعدم المعرفة بالمعصية، أو هي عدم المعرفة بالآثار السلبية والعواقب المؤلمة للذنوب والمعاصي؟ إنّ كلمة الجهل وما يشتق منها وإن كانت لها معانٍ مختلفة، ولكن يُستفاد من القرائن أنّ المراد منها في هذه الآية المبحوثة هنا هو (طغيان الغرائز، وسيطرة الأهواء الجامحة وغلبتها على صوت العقل والإيمان)، وفي هذه الصورة وإن لم يفقد المرء العلم بالمعصية، إلّا أنه حينما يقع تحت تأثير الغرائز الجامحة، ينتفي دور العلم ويفقد مفعوله وأثره، وهذا يساوي الجهل عملاً. وأمّا إذا لم يكن الذنب عن جهل وغفلة، بل إنكار وعناد وعداء لحكم الله تعالى, فإنّ ارتكاب مثل هذا الذنب ينبئ عن الكفر؛ ولهذا لا تقبل التوبة منه إلّا أن يتخلّى عن عناده وعدائه وإنكاره.(1) ولفظة (إنما) تتضمن النفي والإثبات، معناه: لا توبة مقبولة عند الله: (عز وجل) (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ..) وأردفها بقوله تعالى: (..ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ..)، فذهب الكثير من المفسرين إلى أنّ معناها أن يتوبوا قبل الموت؛ لأن ما بين الإنسان وما بين الموت قريب، فالتوبة مقبولة قبل اليقين بالموت.(2) وقد فسّر بعضهم عبارة (من قريب) بالزمان القريب من وقت حصول المعصية، فيكون المعنى أن يتوبوا فوراً، ويندموا على ما فعلوا بسرعة، ويتوبوا إلى الله تعالى؛ لأنّ التوبة الكاملة هي التي تغسل آثار الجريمة وتزيل رواسبها من الجسم والروح بشكل مطلق حتى لا يبقى أي أثر منها في القلب، ولا يمكن هذا إلّا إذا تاب الإنسان وندم قبل أن تتجذّر المعصية في كيانه ووجوده، فيكون له طبيعة ثانية، فالتوبة الكاملة إذن هي التي تتحقق عقيب وقوع الذنب في أقرب وقت، ولفظة (قريب) أنسب مع هذا المعنى من حيث اللغة والفهم العرفي. صحيح أنّ التوبة التي تقع بعد زمن طويل من ارتكاب المعصية تقبل أيضاً، إلّا أنها ليست التوبة الكاملة، ولعلّ التعبير بجملة (على الله) أي: على الله (عز وجل) قبولها كذلك إشارة إلى هذا المعنى؛ لأن مثل هذا التعبير لم يرد في غير هذا المورد من القرآن الكريم، ومفهومه هو أنّ قبول التوبة القريبة عن زمن المعصية حقّ من حقوق العباد، في حين أنّ قبول التوبة البعيدة عن زمن المعصية تفضّل من الله (عز وجل) وليس حقاً. ثم إنه سبحانه -بعد ذكر شرائط التوبة- يقول: (..فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)/ (النساء:17) مشيراً بذلك إلى نتيجة التوبة التي توافرت فيها الشروط المذكورة. ثم يقول تعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ)/ (النساء:18)، وعلّة عدم قبول هذا النوع من التوبة واضحة؛ لأنّ الإنسان عند الاحتضار تنكشف له الأستار, فهو يرى بعض الحقائق عن عالم الآخرة، ويشاهد نتائج أعماله التي ارتكبها, فمن الطبيعي في مثل هذه الحالة أن يندم كلّ مجرم على جرمه وأفعاله السيئة, أمّا الطائفة الثانية التي لا تقبل توبتهم هم اللذين يموتون وهم كفّار، فهم تحبط أعمالهم السابقة حتى الصالحة.(3) .................................. (1) تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل: ج3، ص94. (2) مجمع البيان في تفسير القرآن: ج3، ص43-43. (3) تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل: ج3، ص95.