رياض الزهراء العدد 121 الملف التعليمي
شَجَرَةٌ تَفِيء بِظِلَالِهَا عَلَى السَّاحَةِ النُّسوِيَّة
الخطابة فنّ من الفنون النثرية الأدبية العريقة المعروفة منذ القدم, ولها أدواتها الخاصة التي من أهمها الصوت الحسن والبلاغة في التعبير, وتعدّ خير وسيلة بنّاءة لجذب الناس إلى فكرة أو عقيدة ما, وهي إحدى المصاديق للتبليغ عن الدعوة الدينية, كما استعملت من قبل الأنبياء والرسل لإيصال فكرة التوحيد للناس والتبليغ عن الرسالة السماوية؛ لذلك هي فنّ لا يُستهان به, وجاءت أهميتها وتجذرت في الحياة الدينية بخاصة بعد نزول الآية الكريمة: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ..)/ (آل عمران:104) فالخطيب تقع عليه مسؤولية البقاء المعنوي الذي يتمثل في خلود العقيدة والفكر, وهو واجب كفائي على المسلمين وليس عينياً, وعلى الأشخاص الذين يتصدون للخطابة أن يتحلوا بصفات معينة تعينهم على إقناع المجتمع والتأثير به, ولا ننسى أنّ مستويات الناس لفهم محاضرة ما مطروحة بشكل خطابي تتفاوت بين الأشخاص كلاً بحسب إدراكه وعلمه وإحاطته بالمسائل سواء العقائدية أم الفقهية, لكنهم جميعاً متساوون في النظر إلى تصرفات الخطيب وسلوكياته الظاهرة في المجتمع, لذلك عليه أن ينتبه لكلّ شاردة وواردة في تصرفاته, والخطيب الناجح المتميّز يزدان بالعلم والمعرفة سواء في الأمور الفقهية أم العقائدية؛ ليحمل راية الريادة في النصح والإرشاد والوعظ, وغالبية الناس يميلون إلى كلام الخطيب؛ لأنه على احتكاك دائم معهم, وإدراكاً لأهمية الخطيب أو الخطيبة في حياة المجتمعات تصدت العتبة العباسية المقدسة لهذا الأمر الجلل، وعمدت إلى فتح معهد الخطابة النسوية والذي مقره في داخل الصحن الشريف لأبي الفضل العباس (عليه السلام). وكان لمجلة رياض الزهراء (عليها السلام) زيارة إلى مقر المعهد للتعرف على منهاجه ورؤيته وأهدافه في رسم مستقبل الخطابة النسوية؛ لذلك تكلمنا مع الشيخ الفاضل عبد الصاحب الطائي مدير معهد الخطابة الذي تكرم علينا بالرد قائلاً: الخطيب الأكثر وعياً ومعرفة بفكر أهل البيت (عليهم السلام) وأمرهم هو أقدر على إحياء أمرهم, وأقرب إلى أن يشمله دعاء الإمام الرضا (عليه السلام) قال: "رحم الله عبداً أحيا أمرنا، قلت: كيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا، ويعلمها الناس، فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا"(1)، إنّ شرف الخدمة الحسينية لا يناله إلّا مَن كان مخلصاً لله (عز وجل) في أدائه لهذه الخدمة المباركة, ملتزماً بهدي أهل البيت (عليهم السلام) في سلوكه وتعامله مع الناس, هنالك تخرج موعظته من قلبه بصدق فتقع في القلوب موقع التأثير والقبول. جاء موضوع إنشاء مدرسة للخطابة النسوية بهدف المساعدة على تأدية الواجب عن طريق الإسهام في بناء الأسس التي تقوم عليها الخطابة النسائية أو إصلاحها بحيث يمكننا من خلالها الاستفادة من عطاء المنبر الحسيني والشعائر الحسينية بشكل أفضل، وتحقيق الهدف من إقامة مراسيم ذكرى عاشوراء، وتثبيت المبادئ والقيم التي ارتكزت عليها ركائز المنبر الحسينيّ النسائي, الذي كان يشهد في وقت اتخاذ القرار بإنشاء مدرسة للخطابة سنة (2007م) قصوراً في جوانب عديدة، ممّا جعل الخطابة النسائية في مجتمعنا ليست بالمستوى المطلوب، فقد اقتصرنَ على إلقاء الشعر الحسينيّ، وبعدها توجهنَ إلى المنبر الحسيني إمّا ليشغلنَ فراغاً في حياتهنّ أو وجدن في ذلك منافسة ممتعة أو طريقاً لتحقيق أغراض شخصية أحياناً, وهذا المجال يحتاج إلى العمل بجد ومثابرة وإخلاص ليكنّ مؤهلات لحمل رسالة الحسين (عليه السلام) وإيصالها إلى المجتمعات النسوية، وممّا يؤسفنا كثيراً أن نجد العديد من النساء اللواتي توجهنَ لتوصيل هذه الرسالة العظيمة ليس لديهنّ أي خلفية ثقافية دينية واعتمدنَ على ما موجود في بعض الكتب التي يكتب بها مجلس عزاء كامل، فتأخذ الخطيبة هذه الخطبة الجاهزة وتبدأ بطرحها ولا تعلم هل أنّ ما مكتوب فيها يتناسب مع مَن ستطرح لهم هذا الكلام؟ وهل هو صحيح أو أنها أفكار مدسوسة تحاول هدم الثقافة الدينية الصحيحة؟ متناسين (إن فاقد الشيء لا يعطيه). وكثير من الأخوة الخطباء تبنوا فكرة إنشاء مدارس للخطابة, ولكلّ مدرسة طرقها وأساليبها الخاصة وبعد التمعن بالموضوع واستشارة ذوي الخبرة والاختصاص قررنا أن نتبنى فكرة إنشاء مدرسة للخطابة النسوية من منطلق قول الرسول (صلى الله عليه وآله): "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته"(2)، والحمد لله تعالى تمّ تخريج عدّة دورات، وهنّ الآن من أبرز الخطيبات الحسينيات، وممّن يُشار إليهنّ بالبنان, ونحن مستمرون في تطوير البرنامج الدراسي الموضوع للخطابة النسوية, وكان معهد الخطابة النسويّ في العتبة العباسية المقدّسة ثمرة نتمنى من صاحب الجود أن يبارك فيها وإن تؤتي أُكلها في توجيه الشريحة النسوية توجيهاً عقائدياً فقهياً رسالياً, له بصمته الخاصة والمتميزة في التأثير في المجتمع لكلّ خير وإصلاح. وكان في استقبالنا في معهد الخطابة الأخت (أم حسن) المعاونة الإدارية للمعهد التي أوضحت لنا مشكورة عن طبيعة الدراسة في المعهد وآلية الدوام فيه قائلة: معهد الخطابة النسويّ هو الأول في العتبة العباسية المقدّسة, يحتضن العديد من الطالبات اللاتي يتمايزن في أعمارهنّ, وفي تحصيلهنّ الدراسي, ووصل عددهنّ إلى مئة وخمسين طالبة, ويستمر الدوام فيه لمدة أربعة أيام, وأوقات الدوام تبدأ من الساعة الواحدة والنصف ظهراً إلى الساعة الرابعة والنصف عصراً, والمواضيع التي يتمّ تدريسها للطالبات هي: الأطوار الحسينية المختلفة، ومادة الفقه، والعقائد، والسيرة، وأحكام التلاوة والتجويد. وطالباتنا متباينات من حيث التحصيل الدراسي, فمنهنّ ربات بيوت لم يكملن المرحلة المتوسطة، ومنهنّ طالبات جامعة، وأخريات معلمات ومدرسات تربويات, وهنّ أخوات عزيزات منهنّ من محافظة كربلاء المقدّسة, وأخريات من مختلف محافظات العراق. السفر إلى أرض الكفيل لنهل دروس الخطابة لهُ مشاقه, وربّما يُصادف هناك ظروف تمنع حضورهن لبعض المحاضرات, هل تتوفر آلية في المعهد لحلّ هذه المشكلة؟ المعهد حريص على تسجيل جميع الدروس والمحاضرات من قبل الأساتذة الشيوخ؛ لذلك لا توجد مشكلة عند عدم حضورهنّ لأسباب قاهرة عن إرادتهن, فتعمد الإدارة إلى تقديم يد العون إليهنّ عن طريق إعطائهن المحاضرات المسجلة للاستفادة منها ومراجعة مواضيعها. ما هي نشاطات المعهد النسويّ للخطابة؟ يوجد لدينا عدة نشاطات على مدار السنة, منها تقديم دورة للنساء الراغبات في تحصيل العلم ولكن ظروفهن لا تسمح لهن بالدوام اليومي, لذلك عمد الشيخ الطائي إلى افتتاح دورة (السيّدة زينب (عليها السلام)) وهي دورة تدريبية لهنّ, تقام في سرداب الإمام الكاظم (عليه السلام) في الحرم العباسيّ, في يوم الأحد من كلّ أسبوع, مدتها أربعة أشهر, منها ثلاث محاضرات في تعليم الطالبات كيفية كتابة المحاضرة يقدّمها الشيخ عبد الصاحب الطائي, وثلاث محاضرات في طريقة البحث في السيرة العطرة للنبيّ الأكرم وآله الميامين, يقدّمها السيّد نبيل الحسيني/ م. مؤسسة نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة, يتعلمنَ فيها كيفية اختيار الكتب الشيعية المعتبرة لكي ينهلن منها الأحاديث الصحيحة, وثلاث محاضرات أخرى تقدّم في الشهر الثاني في كيفية القراءة الصحيحة للقرآن الكريم, وتجاوز الأخطاء الشائعة فيه وتعليم نبذة من أحكام التلاوة, أمّا المحاضرات الست الأخيرة فهي تُعنى بالمسائل الفقهية والتي يكون محور مواضيعها عن أهم الابتلاءات النسوية الشرعية, وبذلك تختم الدورة وقد حصلت المنتمية إليها على معلومات شتى في العلوم الدينية والأطوار الحسينية, وفي هذه الدورات يحقّق المعهد العديد من الغايات، منها تصحيح القراءة للقرآن الكريم، وتعليم أحكام التلاوة, وتعليمهنّ الأطوار المختلفة، وحصولهنّ على معلومات لا بأس بها عن العقائد والفقه, وأحياناً أخرى نتمكن من استقطاب هذه الشريحة النسوية إلى معهد الخطابة، وإكمال دراستهنّ فيه لمدة ثلاث سنوات. كما تم افتتاح دورة للخطيبات المدرسات في المعهد الحسينيّ والعباسيّ لتدريبهنّ على فن التدريس وكيفية التواصل الإيجابي مع الطالبات, فالمعهد له غايات مستقبلية ورؤية هادفة في تطوير الخطيبات بما يلائم الحداثة التي يشهدها العصر, فالخطيبة المحصّنة بعلوم أهل البيت (عليهم السلام) والقادرة على صدّ الرياح السوداء التي تهبّ على مجتمعنا والتي تستهدف شريحة الشباب لتحولهم إلى دمى ممسوخة للفكر المقيت سواء المتطرف الإرهابي أم الفكر العلماني هي الجديرة بحق في حمل لقب الخادمة للسيّدة الزهراء (عليها السلام) ولرسالة الإمام الحسين (عليه السلام), فهي تمسي نجمة وضّاءة في عالمٍ ضج بتعدد الأفكار المدسوسة. الخاتمة يحمل الخطيب في عنقهِ أمانة قدسيّة, وهي إيصال ثقافة أهل البيت (عليهم السلام) وعلومهم ومظلوميهم, وتقع عليه مَهمة مقارعة الركام الهائل من المورثات الخاطئة التي تسلّلت إلى أذهان أفراد المجتمع وأسماعهم في وضح النهار، وتحت مسمّى قال الخطيب, قالت الخطيبة! وتنتشر المعلومات المشبوهة كالنار في الهشيم دون أن يملك الخطيب منهجاً استدلالياً على صحتها, وأحياناً يكون الدافع وراء ذلك هو الجني السريع للأموال دون الالتفاف إلى وجوب التدقيق والتمحيص في دراستها وطريقة عرضها؛ لذلك انطلق معهد الخطابة النسويّ في العتبة العباسية المقدسة ليضع مقاييس صحيحة ورؤية واضحة لإعداد خطيبات مؤهلات دينياً وعقائدياً في توجيه القاعدة الشعبية، ولتحقيق الغاية المنشودة من إحياء الدين والشعائر الحسينية وفق منهجية علمية مدروسة. ............................ (1) وسائل الشيعة: ج27، ص92. (2) مستدرك سفينة البحار: ج4، ص169.