هَلْ العِصْمَةُ مَوهِبَةٌ إِلهِيَّةٌ أَوْ أَمْرٌ كَسْبِيّ؟
من المعلوم أنّ العصمة هي القوة المانعة عن ارتكاب المعاصي، وما هذه القوة إلّا أحد عوامل ثلاثة على وجه عدم المنع من الجمع، وهي: التقوى الكاملة، والعلم القطعي بعواقب المعاصي، والاستشعار التام بجمال الله (تعالى) وكماله وجلاله؛ ولذا لا يمكن تصوّر العصمة بأنها سلب اختيار ارتكاب المعاصي أو انعدام القدرة على اقتراف الذنوب؛ لأنّ المعصوم يبقى متمتعاً بإمكانية اختيار المعاصي والقدرة على إتيانها؛ ولهذا كان صدور المعاصي عنه مستحيلاً بالاستحالة الوقوعية لا بالاستحالة الإمكانية، أي من الممكن جداً صدور الذنب عنه إلّا أنّ ذلك لن يقع. والعصمة منصبٌ إلهيّ لا يمكن أن يُرشح الله سبحانه إليه إلّا مَن نجح في كلّ الامتحانات، واجتاز جميع الاختبارات في العوالم التي سبقت عالمنا هذا، كما ورد في زيارة الصديقة (عليها السلام): "اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا مُمْتَحَنَةُ اِمْتَحَنَكِ الَّذى خَلَقَكِ قَبْلَ اَنْ يَخْلُقَكِ وَكُنْتِ لِما امْتَحَنَكِ بِه صابِرَةً "، وعليه فالعصمة موهبةٌ إلهيةٌ أفاضها الله تعالى على مَن سبق علمه بأنه لو أُفيضت عليه لاختار الامتناع من القبائح، قال الشيخ المفيد (رضي الله عنه): (والعصمة تفضّل من الله تعالى على من علم أنه يتمسك بعصمته)(1). وهذه هي العصمة الذاتية للأنبياء والأوصياء والسيّدتين العذراء والزهراء (عليهما السلام). إلّا إنّ هناك عصمةً أخرى وهي العصمة الكسبية (الأفعالية)، والفرق بينهما كالفرق بين شخصين لم يمرضا بمرضٍ معيّنٍ قطّ، أحدهما لُقِّح ضدّ هذا المرض منذ الصغر، بينما الآخر تجنَب التعرّض للفيروس المُسبب له ــمع الأخذ بنظر الاعتبار أن المثال يقرب من جانب ويبعد من آخرــ فالأول قد عُصِمَ من التلوث وإن وُضِعَ في البيئة الملوثة مثلما حدث مع النبيّ يوسف (عليه السلام)، بينما الآخر بأفعاله ووقايته يبتعد عن البيئة الملوّثة فينجو بنفسه. وعليه فتكون العصمة الكسبية (الأفعالية) أمراً كسبياً يتوقف على مثابرة المؤمن في جهاد نفسه وطي درجات التكامل، وقد ثبت بالدليل أن هناك الكثير ممّن عُصِموا بهذه العصمة، ولعلّ الحوراء زينب (عليه السلام) أجلى مصاديقهم، والدليل على عصمتها (عليها السلام): أولاً: سيرتها الذاتية تكشف عن تربية نبويّة علويّة لا تنتج إلّا عصمة أفعالية في أعلى مراتبها، ويكفي اختزالها بذكر صلاتها صلاة الليل في ليلة الحادي عشر من المحرّم التي تهدّ الجبال بعظم مصيبتها. ثانياً: شهادة الإمام السجّاد (عليه السلام) لها بالعصمة في قوله: "أنت بحمد الله عالمة غير معلّمة وفهمة غير مفهّمة"(2)، وبما أن العلم المحتاج إلى التعليم هو العلم الذي من شأن المعصوم، إذن فشهادته لها بذلك العلم كاشفة عن عصمتها (عليها السلام). ثالثاً: وصيّة الإمام الحسين (عليه السلام) لها بتحمّل المسؤولية في مدة مرض الإمام السجاد (عليه السلام)، وقد نجحت في ذلك بامتياز، بل حفظت الشريعة وحافظت على إمام زمانها بمواقفها وكلماتها (عليها السلام). رابعاً: إنابة الإمام السجّاد (عليه السلام) إياها نيابة خاصة، فقد رُوي: "أنّ الحسين بن علي أوصى أخته زينب بنت عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام) في الظاهر وكان ما يخرج من عليّ بن الحسين ينسب إلى زينب بنت عليّ تستراً على عليّ بن الحسين (عليه السلام)"(3)، فيدلّ ذلك على عصمتها بالعصمة المكتسبة. ....................................... (1)بحار الأنوار: ج17، ص96. (2)مستدرك سفينة البحار: ج4، ص315. (3)إكمال الدين: ج27، ص45.