رياض الزهراء العدد 124 حرائر الطف
النّصْرَةُ بِالمَوْقِفِ.. لَا تَحِدُّهَا المَسَافَات
هناك في صحراء نينوى حيث الرياح تسفي على الرمال الحارة ظهيرة يوم عاشوراء، تعالت أصوات قعقعة السلاح وصليل السيوف ممتزجة مع صرخات المقاتلين مع أصوات حوافر الخيول التي سحقت أوصال القتلى وهشّمت عظامهم، انطلقت كلمات السبط من شفتيه المتشققتين من الظمأ والضعف "هل من ناصر ينصرنا؟"(1) لتتردّد في الأرجاء وتزمجر كالرعد في سماء العشق الولائيّ لتتناهى إلى قلوب العاشقين على هذه المعمورة وأسماعهم ليهبوا لتلبية نداء النصرة لثورة عاشوراء التصحيحية، تصحيح المفاهيم والدساتير الشرعية والأخلاقية التي حرّفها بنو أمية، إنها نصرة الضمائر الحية التي لا تحدها المسافات لإمام زمانها، خاصة إذا كانت في ظروف استثنائية كالتي مرّ بها الإمام الحسين (عليه السلام). وآليات النصرة متحركة ومتنوعة لا تحدّها القيود الزمكانية، وتترجم هذه الآليات بمواقف مشرفة لتلك النفوس الأبية من رجال ونساء كلّ بما يمتلكه من إمكانيات متاحة يسخرها للنصرة، ومن هذا المنطلق برزن حرائر الطف ممّن سمعنَ نداء النصرة بالبصيرة وصلابة الإيمان، ولبّيْنَ ذلك النداء بمواقف فاقت بها همم الرجال وعزمهم. إنهنّ نسوة من حور الجنان على الأرض، تمثلت العقيدة بكلّ كيانهنّ، وذابت أرواحهنّ شوقاً كالحمائم يحلقنَ في أجواء الولاية، فبعد المسافة عن أرض الطف لم يمنعهنّ من نصرة الإمام الحسين (عليه السلام) بالموقف، إذ خلّد التاريخ مواقفهنّ وذكر أسماءهنّ مع نساء عاشوراء بمساندتهنّ للنهضة الحسينية كلّ من موقعها وإمكانياتها، إذ كانت مواقفهنّ تلك ولا تزال صرخة مدوّية بوجه الظالمين عبر الأزمان، وكانت لهنّ سبيل الجهاد وإن كان الجهاد الميدانيّ ساقطاً عن المرأة، إلّا أنّ موقفاً بطولياً واحداً منهنّ لربّما يوازي عمل أمّة بأسرها. ومن النساء من عاشت عاشوراء فكراً وروحاً وعقيدةً وديناً ودنيا وجسدته بأروع صور النصرة حتى قبل وقوعها فعلياً، كفاطمة الكلابية أم البنين (عليها السلام) رائدة النساء في نصرة إمام زمانها عبر الأجيال، ومواقفها يخجل يراعي عن إحصائها، وأمّ المؤمنين أمّ سلمة (رضي الله عنها) ورعايتها لفاطمة العليلة (عليها السلام) وحديث القارورة المشهور، وبطلة الكوفة طوعة (رضي الله عنها) التي آوت وآزرت مسلم بن عقيل (عليه السلام)، ومارية بنت منقذ العبديّ من أشراف البصرة التي دعمت الموالين بالمال والسلاح لنصرة الإمام الحسين (عليه السلام). ومنهنّ مَن نصرت الإمام الحسين (عليه السلام) بعد الواقعة، وأدت مواقفهنّ دوراً كبيراً في تدعيم أسس نهضة عاشوراء الفكرية والروحية، وكشف حقيقة بني أمية (لعنهم الله) كموقف زوجات أعداء الحسين (عليه السلام) نوار بنت مالك الحضرمية زوجة خولي حامل رأس الحسين (عليه السلام) وضرّتها عيوف الأسدية، والنوار زوجة كعب بن جابر الذي شارك في قتل برير بن خضير، إذ رفضن أفعال أزواجهنّ وتركنهم نصرةً للإمام الحسين (عليه السلام)، وموقف سلافة الفتاة الكوفية التي تحملت المخاطر لحماية ولدي مسلم من عيون ابن زياد، والموقف المشرّف لنساء بني أسد ودورهنّ الكبير في دفن الأجساد الطاهرة، ولعلّ لموقف هند بنت عبد الله بن عامر زوجة يزيد بدخولها حاسرة في مجلسه معترضة على جريمته بحق آل الرسول (صلى الله عليه وآله) أثراً فاعلاً في تصدّع أركان البلاط الأمويّ وكشف زيفه. ولم تنته النصرة عند تلك الحقبة، ففاعلية نداء الاستنصار الحسينيّ مستمرة عبر الأجيال، وخاصة في هذا المقطع الزمني الذي نعيش فيه ظرفاً استثنائياً حرجاً وتحديات عظمى، زمن ضاعت فيه الأحكام، وحُرّفت الشريعة، وغُيّرت السنن، وتغيّرت المفاهيم والأسس الأخلاقية، وامتلأت الأرض ظلماً وجوراً، وغُيّب الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وها هو الآن يستنصرنا "هل من ناصر ينصرنا؟" وأصبحنا نتطلّع لبزوغ عاشوراء جديدة، ونرقب طلعة الموعود، ونسعى إلى أن نكون من نساء دولة القسط والعدل أو ممّن يمهّد لها، فلنا من حرائر عاشوراء الحسين (عليه السلام) اللواتي نصرن عاشوراء بالموقف وتركن بصمة واضحة فيها القدوة والأسوة لننهل من معين مواقفهنّ دروساً وعبراً متجددة لا تنتهي، خاصة لنا نحن نساء عصر الغيبة إذ نستطيع أن نسجل بصمتنا المهدوية الرافضة للظلم والداعية إلى ثورة تصحيحية بمواقفنا وصبرنا وإصرارنا وتضحياتنا بكلّ إمكانياتنا المادية والبشرية، وتجلّى ذلك بكلّ وضوح في أمهات شهداء حشدنا المقدّس وزوجاتهم، إذ قدمنَ النصرة بأبهى صورها لنمهد بذلك لدولة العدل المنتظر. ................................. (1)الإمام الحسين (عليه السلام) من الميلاد وحتى الاستشهاد: ص247.