المِنْبَرُ الحُسَيْنِيّ بَينَ التَّأَثّرِ وَالتَّأثِير
من الملاحظ أنّ للخطاب الحسيني أثراً فاعلاً في الأوساط الموالية كونه وسيلة إعلامية مُهمة لها التأثير الإيجابي في نفوس أبناء المجتمع، إذ نرى إقبالاً واسعاً على المجالس الحسينية خصوصاً في المواسم العاشورائية؛ ونتيجة لهذا الإقبال يتحتم على المهتمين بالمنبر الحسيني أنّ يستثمروا هذا الصرح الفعّال، ويعملوا على ديمومته وتوظيفه توظيفاً صحيحاً لخدمة المذهب وبناء الوعي السليم للمجتمع في شتى المجالات خصوصاً المجال الدينيّ والأخلاقيّ، ويُفترض على أرباب المنابر أن يؤثروا في المجتمع ويغيّروا من بعض نظراته السلبية لكثير من الأمور الاجتماعية، وليس العكس بأنْ يتأثر الخطيب بمغريات العصر ويستخدم المنبر كوسيلة لكسب المال أو كمنصة للدعوة لبعض الأشخاص والترويج لهم كما يحصل مع بعضهم في الآونة الأخيرة، فيتوجّب أن يكون المنبر الحسينيّ منبر إصلاح وتغيير، وأن يدعو إلى قضية عاشوراء وما يرتبط بها فقط من دون التعرّض لأمور أخرى ليس لها صلة بالإمام الحسين (عليه السلام) وثورته الخالدة، حتى نتعرف أكثر على دور المنبر الحسينيّ، وهل حقّق الأهداف المنشودة التي خرج الحسين من أجلها؟ توجهنا بالسؤال إلى إحدى خطيبات المنبر اللاتي أضفن بصمة مشرقة للمنبر النسويّ؛ وذلك عن طريق استثمار المجلس الحسينيّ لنشر الوعي الدينيّ الصحيح، والمزاوجة بين العَبرة والعِبرة؛ كون الأخيرة أكثر أهمية وفائدة للمجتمع. شاركتني الحديث حول الموضوع وأجابت متفضلة عن أسئلتي الخطيبة المنبرية نجلاء مهدي محمد صالح، إذ وُجّهت لها بعض الأسئلة فيما يخصّ الموضوع وكالآتي: من وجهة نظركم كيف لنا أن نوظّف المنبر الحسيني لخدمة الدين والمذهب ومحاربة الأفكار الضالة؟ وما هو الدور الذي يقع على عاتق الخطيب الحسينيّ في ضل شيوع أفكار الإلحاد وانتشارها بشكل واسع في الأوساط الشبابية؟ وكيف يمكن أن نعمّق التفاعل الحي والترابط الوجدانيّ بين الخطيب الحسينيّ من جهة وبين أبناء المجتمع وطبقاته من جهة أخرى؟ فأجابت مشكورة: يمكننا أن نوظّف المنبر الحسينيّ في خدمة الدين والمذهب عن طريق المعرفة والمعلومة التي يحرص صاحب المنبر على أن يوصلها إلى المتلقي بأبسط صورة وأسهل العبارات، مع المحافظة على قوة البيان، ومتانة الدليل المطروح، والعمل بما ورد عن الرسول (صلى الله عليه وآله): "إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم".(1) ويُعدّ حسن البيان أقوى وسيلة وأمضى سلاح للتأثير في النفوس وإقناع الجمهور وتثقيف المجتمع ورفع مستواهم الفكريّ والثقافيّ، ومن هنا كان الأنبياء والمرسلون (عليهم السلام) يستخدمون سلاح البيان كوسيلة فعّالة في التبليغ والدعوة إلى الله (عزّ وجل)، قال تعالى لموسى وهارون (عليهما السلام):( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)/ (طه:43، 44). وأكّدت الخطيبة على أهمية الدور الذي يقع على عاتق الخطيب، إذ أشارت إلى أنّ هناك مسؤولية كبرى تقع على عاتق مَن يرتقي المنبر، وهي معالجة الأفكار الإلحادية عن طريق تعميق الإيمان بالله (عزّ وجل) عن طريق استعراض الآيات الأنفسية والآفاقية التي تدلّ على عظمة الخالق (عزّ وجل) وشرحها بأسلوب مبسّط قريب على الأذهان، وكذلك بيان بطلان التقليد في أصول الدين، وأنّ على كلّ مكلّف أن يؤمن عن طريق الدليل العقليّ على وجود الخالق (عزّ وجل). وأشارت متفضلة أيضاً إلى أهم الأمور التي تعزّز الترابط الحي بين الخطيب والسامع، إذ بيّنت: إنّ أهم أمر بنظري القاصر هو أنْ لا يكون الخطيب من الذين يقولون ما لا يفعلون، فعليه أن يراقب سلوكه مراقبة دقيقة، وأن يجعل خطابه عصرياً، ويتناول الموضوعات التي هي معرض ابتلاءاتنا الحالية، وأخيراً التمتع بمحاسن الأخلاق ولاسيّما التواضع، وكلّ هذه الأمور تزيد جسور التواصل بين الخطيب والجمهور. أمّا رأي الأخت كفاء عبد النبيّ محمد العيسى/ مدرسة حوزوية في حوزة السيّدة زينب/ البصرة، مبلّغة تابعة لشعبة التبليغ الديني النسويّ في العتبة الحسينية المقدّسة فكان كالأتي: نعيش اليوم في خضم الصراعات الفكرية بين أمواج الفتن المتلاطمة؛ لذلك نحتاج إلى تنمية أعداد النساء الرساليات، وعلى الرغم من وجود الكثير من النماذج النسوية التي تحمل هذا المعنى إلّا أننا بأمس الحاجة إلى تكثيف الوعي الديني وزيادته عن طريق وجود الناشطات اللّاتي يحملن العلوم الدينية، ففي أغلب المجتمعات النسوية نرى بعض النساء يعانينَ من الفراغ الروحي الذي يقضينه بين شبكات التواصل الاجتماعي، فمجتمعنا بحاجة إلى إعداد المنبر النسويّ وبرمجته من جديد بإعداد نساء منبريات حقيقيات لمواجهة المشاكل الفكرية والعقائدية التي تواجه المرأة. وبيّنت كذلك أهمية الدور الذي يقع على عاتق الخطيب عن طريق ترسيخ العقائد الحقّة وبيانها للناس اعتماداً على الأدلة العقلية التي تحاكي ذهنية المجتمع بكلّ طبقاته، فالمجتمعات التي تواكب الانفتاح الشديد على شتى الأفكار العقائدية المختلفة، تحتاج إلى فتح طريق العلم والمعرفة؛ لذا نحن بأمسّ الحاجة إلى تكثيف المنبر العقائديّ المحاكي لذهنية المجتمع بكلّ طبقاته الفكرية والمجتمعية، وعلى الخطيب أن يعمّق التفاعل الحي مع الناس، وأن يكون متواضعاً؛ لأنّ صفة التعالي من شأنها خلق حاجز ومانع بين الناس وبين الخطيب، يمنعهم من طرح أفكارهم ومعاناتهم. أمّا الأخت الخطيبة زينب جعفر إسماعيل الموسوي/ النجف الأشرف، فقد بيّنت دور الخطيبة في النهضة الحسينية قائلةً: ممّا لاشك فيه أنّ للخطيبة الحسينية دوراً كبيراً جداً في بناء وإصلاح المجتمع الحسيني وإصلاحه، والخطابة ليست مهنة جديدة أو حديثة ظهرت مع ظهور المنبر الحسينيّ الوضّاء، وإنما هي قائمة منذ أن خلق الله (عزّ وجل) أبانا آدم (عليه السلام)، إذ بعث الله تعالى أنبياءه ورسله من خلال الخطابة والحديث للناس كافة؛ ولذلك تعدّ الخطابة الحسينية اللبنة الأساسية في قضية عاشوراء الإمام الحسين (عليه السلام)، إذ إنها تقوم ببيان مظلومية الإمام الحسين (عليه السلام) والظلم الذي وقع عليه من قبل أعداء الله تعالى والإنسانية، وقد يتصوّر بعضهم أنّ الخطابة النسوية ليس لها تأثير مباشر في المجتمع النسويّ الحسينيّ، ولكن في الواقع أن لها تأثيراً كبيراً جداً، كذلك يجب أن تكون للخطيبة الحسينية حالة من الوعي والإدراك الثقافيّ والفكريّ والعقائديّ الذي يؤهلها للقيام بهذا الدور الفعّال والمتجدد مع المحيط الدينيّ والثقافيّ والعلميّ، وهناك متطلبات من المفترض توافرها، والسعي إلى تفعيلها؛ لكي ترقى وتزدهر الخطابة النسوية، وهي اتصاف الخطيبة الحسينية بالوعي والحس المرهف لِمَا يجري حولها والبصيرة بما يدور داخل المجتمع الحسينيّ، وإدراكها التام للمسؤولية؛ لأنّ المنبر الحسينيّ مدرسة لتثقيف الجيل الحسينيّ وتعليمه. ختاماً أقول: يتوجب علينا كمؤمنين وموالين أن نحافظ على هذه الوسيلة الإعلامية والدينية العظيمة التي خدمت ولا تزال تخدم الدين والمذهب منذ استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) إلى يومنا هذا، ويتحتم علينا أيضاً أن نسعى جاهدين جميعا كخطباء ومبلّغين ومستمعين إلى تجديد المنبر الحسينيّ وتطويره بما ينسجم مع أهداف نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) ومبادئها وقيمها؛ لأنّ المنبر الحسينيّ هو الزاد الثقافيّ والدينيّ الذي يزود الأمة بالثبات وبالعزم للوقوف بوجه الطغاة؛ لنصرة الحقّ على الباطل. ............................. (1) الكافي: ج1، ص23.