فَاطِمَةُ الزَّهرَاءُ (عليها السلام) سِرُّ الوُجُود
خلق الله (سبحانه وتعالى) الخلقَ لابتلاء الناس وصولاً إلى تمييز المُحسن منهم من المسيء لقوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)/ (الملك:2)، وعليه فإنّ (تمييز من هو أحسن عملاً من غيره سواء كان ذلك غير المحسن أو المسيء.. هو الغرض المقصود من الخلقة، وبذلك يصح ما ورد في الحديث القدسيّ من خطابه (سبحانه وتعالى) لنبيّه (صلى الله عليه وآله): "لولاك لما خَلَقتُ الأفلاك".(1) إلّا أنّ تتمّة الحديث القدسيّ تُشير إلى أنّ السّيّدة الزّهراء (عليها السلام)سرّ الوجود "لولاك لما خَلَقتُ الأفلاك، ولولا عليّ لما خلقتكَ، ولولا فاطمة لما خلقتكُما"(2)، وقبل بيان المقصود منه لابدّ من القول: إنّ المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام) كلّهم نور واحد في الحقيقة المحمّدية والولاية الإلهيّة العظمى كما ورد في الحديث: "أولنا محمّد وآخرنا محمّد وأوسطنا محمّد وكلّنا محمّد"(3)، وأمّا اختلافهم فهو في الشؤون، فكلّهم جواد، وكلّهم رضا، وهكذا باقي الصفات إلاّ أنّ صفةً ما تبرز في زمن أحدهم فيمتاز بها. إذا اتضح ذلك نقول: إنّ النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) هو العلّة الغائيّة لهذا الكون؛ لأنّه هو الجامع لصفات الله (سبحانه وتعالى) والعاكس لها، ولذلك كان لابدّ من أن يكون من يليه معلولاً يشترك معه في الغاية، ويكون من جنسه ومن سنخه؛ لأنَّ السنخيّة علّة الانضمام، فكان أمير المؤمنين (عليه السلام) لقوله (سبحانه وتعالى): (وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ)/ (آل عمران:61)، من هنا يُفهم قوله (سبحانه وتعالى): "لولا عليّ لما خلقتكَ". ولابدّ لهذين النورين (نور النبوّة ونور الإمامة) من معلولٍ يشبههما وبمستواهما؛ ليجمعهما وليس هذا المعلول إلاّ فاطمة الزّهراء (عليها السلام)، ولذا أتم الله (سبحانه وتعالى) حديثه قائلاً: "ولولا فاطمة لما خلقتكما"، فإذن هي سرّ الوجود أو سرّ السرّ؛ لأنَّ وجودها شرط لازم لولاه تنفصل سلسلة المعصومين. وقد أدّى جمود بعض الفرق الإسلامية على ظواهر الألفاظ إلى اتهام أتباع المدرسة الإماميّة بالغلوّ لاعتقادهم بهذا الحديث، حيث فهموا منه قول الشيعة الإماميّة بأفضليّة السّيّدة الزّهراء (عليها السلام) وسمو شأنها وعلو منزلتها على كلٍّ من أبيها وبعلها (صلوات الله عليهما)!! بيدَ أنَّ كلَّ سُحُب الاتهام بالغلو بخصوص هذا الحديث يمكن أن تنقشع إذا ما أوضحنا أنَّ الحديث القدسيّ ليس في مقام بيان الأفضليّة، بل في مقام بيان استمرار الشريعة الخاتمة بوجودها ومجاهدتها، فهي مجمع النورين المحمّديّ والعلويّ، وسر امتدادهما. فالحديث القدسيّ هذا من قبيل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ/) (المائدة:67)، فكما أنّ الآية ليست في مقام بيان أفضليّة شخص على شخص، وإنما في مقام بيان أهميّة الولاية بحيث إنَّهُ لولاها لما بقي للنبوّة أثر ولاندثرت الشريعة وحُرِّفت، كذلك الحديث يدلُّ على أنَّهُ لولا السّيّدة فاطمة (عليها السلام) لانهدمت أركان الرسالة والإمامة معاً. ولتقريب المعنى بالحس مع الأخذ بنظر الاعتبار أنَّ المثال يقرب من جهة ويبعد من جهات كثيرة نقول: من المعلوم أنَّ الدماغ هو المدبّر للجسم ولولاه لفقد الجسم قيمته، وفي الوقت نفسه فإنَّ الدماغ بحاجةٍ وبصورةٍ دائمة إلى القلب ليضخَّ له الدم، ولولاه لما استمرت به الحياة، كما أنَّ القلب هو الآخر مفتقرٌ إلى مصفاةٍ تصفّي له الدم ولا يؤدّي ذلك سوى الطحال، وعليه فلو قلنا: لولا العقل لما دبّر الجسم أموره، ولولا القلب لما كان العقل حياً، ولولا الطحال لما أدّى القلب وظيفته، لا يعني أنّ القلب أفضل من العقل أو أنّ الطحال أفضل منهما، إذ ليس المقام لبيان الأفضلية بينها مطلقاً، بل تبقى الأفضلية بينها محفوظة وهكذا المعنى في الحديث. .................................. (1) (2) مستدرك سفينة البحار: ج3، ص169. (3) مكيال المكارم: ج2، ص126.