شَذَرَاتُ الآيَات_ 22

أزهار عبد الجبار الخفاجي/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 326

(وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ)/ (النساء: 27, 28, 29). في هذه الآية إجابة على بعض التساؤلات التي تستنكر هذه القوانين وتعدُّها قيوداً فيقول تعالى: (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا)؛ أي أنّ الله تعالى يريد بتشريع هذه الأحكام لكم أن يُعيدَ عليكم نعمه التي قُطِعت ومُنِعت عنكم بسبب ذنوبكم، وارتكابكم للشهوات، وأن تنغمسوا في الآثار انغماسا كاملاً، فهل ترون -والحال هذه- أنّ هذه الحدود والقيود الكفيلة بضمان سعادتكم وخيركم ومصلحتكم أفضل لكم، أو الحريّة المنفلتة المقرونة بالانحطاط الخُلقي، والفساد؟ إنّ هذه الآيات في الحقيقة تُجيب عن تساؤلات أولئك الأفراد الذين يعيشون في عصرنا الحاضر أيضاً وتقول لهم إنَّ الحريات المطلقة المنفلتة ليست أكثر من سراب، وهي لا تنتج سوى الانحراف في مسير السعادة والتكامل الإنسانيّ، كما توجب التورّط في المتاهات والمجاهل، وتستلزم العواقب الشريرة الّتي يتجسّد بعضها في ما نراه بأم أعيننا من تبعثر العوائل، ووقوع أنواع الجرائم، وظهور الأمراض والآلام الروحيّة والنفسيّة المقيتة.(1) ثم إنَّهُ عز وجل يقول بعد ذلك: (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ) أي في أمور دينكم ودنياكم؛ لذا أحلَّ لكم النساء إلّا ما فيه مضرّة، ويقبل توبتكم، ولو أراد التشديد لما قَبِلَ توبتكم، وحرّم عليكم أقساما أخرى من النساء كما قال (سبحانه وتعالى): (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)/ (النساء:161) وفيه إفادة أنّ تحريم ما ذُكِرَ ليس تثقيلاً وإنما هو تخفيف، فإنّ التخفيف قد يكون بالنسبة إلى الشيء، وقد يكون بالنسبة إلى نتائجه، وتحريم هذه المحرّمات المذكورة هي من أجل تخفيفها بالنسبة إلى النتائج؛ لما تشتمل عليه المحرّمات من وخامة العاقبة في الدنيا والآخرة، والّتي منها ضعف النسل بالنسبة للنكاح المحرّم كما ثبت في الطب الحديث.(2) ولأنَّ الإنسان خُلق ضعيفاً فلابدّ له من أن يواجه طوفان الغرائز المتنوّعة الجامحة الّتي تحاصره وتهجم عليه من كلِّ حدبٍ وصوب أن تطرح عليه طرق ووسائل مشروعة، ليتمكّن من حفظ نفسه من الانحراف والسقوط.(3) فهذا النهج هو نهج الله تعالى الذي سنّه لجميع المؤمنين، وهو ثابت في أصوله يجمع بين المهتدين في كلِّ زمانٍ ومكان، ويكشف عن وحدة نهج العدل المبين، ليرحمكم ويأخذ بيدكم إلى التوبة. ثم قال (سبحانه وتعالى): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ) تمثّل هذه الآية حلقةً في سلسلة التربية، وحلقةً في سلسلة التشريع، وهما متلازمان في النهج الإسلامي والتكامل الذي يُصلح الحياة الواقعيّة والضمير البشري، ففي هذه الفقرة نجد النهي للذين آمنوا عن أكل أموالهم بينهم بالباطل، ويدعو للربح الحلال، وهي توجيهات تربويّة من صنع العليم بالإنسان وتموينه النفسي، وأكل الأموال بالباطل يشمل كلّ طريقة لتداول الأموال بطريقة لم يأذن بها الله (سبحانه وتعالى)، والربا في مقدّمتها، والفرق بعيد بين طبيعة الربا، وطبيعة التجارة، فالتجارة وسيط نافع بين الصناعة والمستهلك، وهي خدمة وانتفاع للطرفين، والربا على الضدِّ من هذا كلّه، إذ يثقل الصناعة بالتجارة الربوية والربح يكون في جانب المرابين دائما، فهذه الملابسة بين الربا والتجارة هي الّتي اقتضت الاستدراك بقوله: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ). ..................... (1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج3، ص121-122. (2) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج1، ص469. (3) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج3، ص122. (4) تفسير البيان الصافي: ج2، ص315.