رياض الزهراء العدد 128 شمس خلف السحاب
السِّفَارَةُ المُسْتَأمَنَة للحُجَّةِ بنِ الحَسَن (عجل الله تعالى فرجه الشريف)
من الرائع أن يكونَ أحدُنا محطّ احترام الآخرين إلى درجةٍ تجعله يحظى بثقتهم، فيأتمنوه على خصوصيّاتهم ويكلّفونه استناداً إلى تلك الثقة الكبيرة بالقيام ببعض الأعمال نيابةً عنهم، فهناك من يستأمن الآخر على أمواله ويعتمد عليه كلّ الاعتماد، ومنهم من يأتمن البعض على أملاكه فيسلّمه أوراقه ومستنداته دون خوفٍ أو شك، ومنهم من يستأمن أحدهم على عياله وأهله في حالة غيابه أو سفره، وهي من الأمور المهمّة التي لن ينالها إلّا شخص على مستوى عالٍ من الثقة، وهكذا تتنوّع الأمانات ومع اختلافها يبقى الشخص المستأمن يحظى بجملةٍ من المزايا التي تؤهّله لنيل تلك الثقة باستحقاقٍ وجدارةٍ عالية. إذ لابدّ أن يتمتع بالخُلق الكريم، والصفات الحميدة، والسلوك الحسن، والأدب الجم، والأمانة العالية، والسيرة النبيلة، والعائلة الكريمة، وكلّما زادت الأمانة كلّما صار الحرص على أشدِّه في اختيار حامل تلك الأمانة، هذا باعتبار قياساتٍ يضعها عامّة الناس، وهي لن تختلف حتماً عمّا يضعها أولياء الله الصالحين من فضائل المزايا والسجايا، ولكن القضيّة أكبر والهدف أسمى، فلذا سيكون اختيار أولياء الله (سبحانه وتعالى) اختياراً مدروساً لا يقبل الريبة أو الخطأ أبداً؛ لأنَّ الأمر مصيريّ والقضيّة جوهريّة. ونحن نعيش أيام هذا الشهر المبارك شهر جمادى الأولى نستذكر تاريخ وفاة النائب الثاني للإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) (محمّد بن عثمان بن سعيد العَمْري الأسدي)، المُكنَّى بأبي جعفر العسكري (عليه السلام)، فلقد اتّصف هذا السفير بالعلم والزهد والمولاة للأئمة الأطهار (عليهم السلام)، حيث مثّل حلقة اتصال بين الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وشيعته في أثناء مرحلة الغيبة الصغرى، فكان يحمل إلى الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) رسائل شيعته ومحبيه وأسئلتهم، ثم يأتي إليهم بالجواب، كما كان يقوم بمهمّة استلام الحقوق الشرعية مثل بقية السفراء الأربعة. قام أبو جعفر مقام أبيه محمّد العمري بنصٍّ من أبيه بناءً على أمر الإمام الحُجّة (عجل الله تعالى فرجه الشريف). وقال عبد الله بن جعفر: خرج التوقيع إلى أبي جعفر محمّد بن عثمان في التعزية بأبيه قول الحُجّة (عجل الله تعالى فرجه الشريف): "إنّا لله وإنّا إليه راجعون تسليماً لأمره ورضاءً بقضائه، عاش أبوك سعيداً ومات حميداً فرحمهُ الله وألحَقَهُ بأوليائه".(1) وفي فصل آخر قال الحُجّة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) مخاطباً ابن العُمري: "أجزل الله لك الثواب وأحسن لك العزاء، رُزيت ورُزينا وأوحشك فراقه وأوحشنا فسرَّهُ الله في منقلبه، وكان من كمال سعادته أن رزقه الله ولداً مثلك يخلفه من بعده ويترحّم عليهُ، أعانَكَ الله ووفقك وكان لك وليّاً وحافظاً".(2) وهكذا تولّى السفارة بعد أبيه وبعد دعاء الإمام لهُ بنصٍّ مِن الإمام العسكري (عليه السلام) حينما قال: "اشهدوا عليَّ أنَّ عثمان بن سعيد وكيلي، وأنَّ ابنه محمّد وكيل ابني مهديكُم"(3)، وكذلك نص أبوه على سفارته بناء على أمر الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) (يجري محمّد عندنا مجرى أبيه ويسدُّ مسدّه، وعن أمرنا يأمر الابن وبه يعمل).(4) فكانت التوقيعات من الإمام الحُجّة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) تخرج على يده كما كانت تخرج في عهد أبيه العمري واستمرَّ بمسؤوليته أكثر من أربعين عاماً حتّى توفى عام 305هـ. فهو أطول السفراء الأربعة خدمةً في تنفيذ أوامر الحُجّة (عجل الله تعالى فرجه الشريف), فهنيئاً لروحه الطاهرة هذه الخدمة الشريفة، فلقد كان نِعم الصاحب الوفي والمواسي المستأمن للخلف الحجة بن الحسن (عجل الله تعالى فرجه الشريف) والناصر لدين الله (سبحانه وتعالى) والنائب عن الحق وأهله. ....................... (1) كمال الدين وتمام النعمة: ٥١٠. (2) الاحتجاج: ج2, 301. (3) الغيبة: ص 356. (4) الغيبة: ص362.