العَصْفُ الذِّهْنِيّ

خلود ابراهيم البياتي/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 298

مصطلحات تعصفُ بنا من هنا وهناك.. كلمات، ومفاهيم، نُشنّف الأسماع لها، ونحدّق الأبصار بحروفها آملين أن نصل إلى كنهِ معانيها، وهي ما تضجُّ بها دورات التنمية البشرية، نجدها تنهمر على حياتنا من كلِّ حدبٍ وصوب، ومن ضمن هذه المصطلحات الكثيرة ورد ما يعرف بالعصف الذهني وهو أحد الطرائق الموظفة لاستمطار المعلومات؛ من أجل الوصول لهدف معين كحلٍ لمشكلة ما، أو الإجابة على سؤال يجول في الخاطر، أو ربّما لابتكار أساليب إبداعية تمنح حياتنا المرونة والقدرة على التكيّف مع كلّ الأوضاع الطارئة. ومن الأخطاء الشائعة الاعتقاد بأنَّ أسلوب العصف الذهني هو أمر حديث العهد، وأنَّهُ من ابتكارات الغرب العظيمة مثلاً، ولعلّنا إن أمعنّا النظر قليلاً بنظرةٍ فاحصة متأملة لتاريخنا الإسلامي الحافل بالنقاط المضيئة للبشريّة جمعاء، سنجد أنَّ قصص الأنبياء (عليهم السلام) تمثّل بحراً زاخراً بفنون العصف الذهني. وممّا يستوقفني في هذا المجال القصّة التي هي بحدِّ ذاتها تمثّل هذا المصطلح، ألا وهي قصّة نبيّنا إبراهيم (عليه السلام)، وكيف استطاع أن يثبت لقومه أنّ ما يتّبعونه هو طريق الضلال والانحراف العقائدي، وقد وظّف (عليه السلام) العصف الذهني بالشكل الاحترافي، الذي لم يسبقه إليه أي مدرّب في التنمية البشرية، بحيث وصلت الفكرة عن طريق الممارسة العمليّة وهي ما يُطلق عليها الآن بالتعلّم التفاعلي الذي يتم من طريقه إشراك المتعلّمين في الوسائل الّتي توضّح المّادة، ومن ثمّ يكون التأثير أكبر وأدوم، ولنخوض قليلاً في غمار هذه القصّة التفاعليّة، فمنذ أن حرّك عقول القوم بالسؤال عن الكواكب، وأيّهما أكبر، وأنَّ ربّ العالمين لا يمكن أن يتّصف بالأفول، فكيف للربِّ أن يترك عباده ويذهب عنهم، وكيف يمكن أن يقاس حجمه، اجبر عقولهم على إدراك أنَّ الذي اتّصف في محكم آياته الكريمة بقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)/ (الشورى:11) لا يمكن أن يكون في ضمن ما يؤمنون به، ومن ثمّ المرور بالأصنام والتخطيط الكامل والمدروس لإيصال المعلومة المفيدة والمصيريّة لهم، عن طريق تحطيم الأصنام الصغيرة، ووضع الفأس حول رقبة الصنم الأكبر، ونهاية توجيه السؤال لهذا الصنم الأكبر بقوله (عليه السلام) كما جاء في الكتاب الكريم: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)/ (الأنبياء:63). هنا وضع عقيدتهم المنحرفة على المحك، وأبطل محتواها الهش عن طريق الأسئلة غير المباشرة الّتي أثارت لديهم الشكوك، ومن ثمّ يمكن لمن أراد أن يصل لليقين أن يهتدي بنوره الساطع. وهكذا يتّضح لنا ممّا سبق أنّ العصف الذهني من الطرائق النشطة التفاعلية المهمّة جداً للوصول لنتائج مثمرة، ومن الضروري استثمار هذا الأسلوب في حياتنا الأسريّة، بأن يكون أحد أساليب التربية لإثارة الأفكار الإبداعية لدى الأطفال، وإتاحة الفرصة لديهم لإيجاد الحلول لمشاكلهم الصغيرة، أو لمعرفة إجابات الأسئلة الخاصّة بهم، عن طريق استنباط الإجابة، وعصف الأفكار في أذهانهم، بحيث لا يتم تأطير أفكار الأطفال بإجابات جاهزة عند الأبوين، والحد من استمطار المعلومات لديه، وإنّما السماح له بالولوج إلى عالم الأفكار والخيال الخصب، والاستماع له بكلّ شفافية ومن ثم استخلاص ما هو صائب من غيره، فنحصل على جيلٍ مبدعٍ قويّ ذي شخصيّة متميّزة، تأخذ على عاتقها بناء هذا المجتمع بصورةٍ صحيحةٍ.