المُنقِذُ الشَّهِيد

ميعاد كاظم اللّاوندي
عدد المشاهدات : 201

كان المنظر مروعاً خلّفه انفجار مهول، أحدث شعلة من دخان ملتهب أجساد ممزقة، لنازحين فارّين من بطش الدواعش الأنجاس، ولجنود أبطال هرعوا لنجدتهم، تشوّهت ملامح الجميع، وجوه اصطبغت بالدماء فلم يعد يُعرف الصغير منهم من الكبير، سمعتُ أنيناً من بين الجثث المطروحة، عرفت أنّ أحدهم ما زال على قيد الحياة، أسرعت نحو مصدر الصوت المختنق، وصلت إليه وبالكاد استطعت انتشاله، حملته على ظهري وبدأت أسابق الريح محاولاً إيصاله إلى السواتر الخلفية لقطعات جيشنا الباسل، صار الجريح ينزف بشدة وشعرت بحرارة الدماء تغزو جسدي، فأخذت أناديه بكلّ ما أوتيت من قوة مخافة أن يفقد وعيه. أنفاسه العالية تنبئ بنهاية تدنو إلينا رويداً رويداً، أحسست أنّ شيئاً يحوم فوق رؤوسنا كأنه يريد استرجاع شيءٍ ما، فجأة وعند احتدام اللحظات الحرجة تراصفت أمام ناظري صور وأحداث كثيرة قريبة منها وبعيدة، تمرُّ سريعاً بتفاصيلها كبثٍّ مباشرٍ بالصوت والصورة، أمي إخوتي وذاك وجه أبي المتوفى و.. و.. ظلام تارة وأخرى ضياء بهي أخضر ناصع انشرحت له سرائري، ثم سرعان ما عدت لأنادي رفيقي المحتضر لكن هذه المرة لا أنفاس ولا أنين، ترحمت عليه وأغرورقت عيناي بدموع ساخنة، فحدّثته بخاطرٍ منكسر يا صنديد يا ملبّي دعوة الحق، هنيئاً لك ادعو لي لأنال ما نلته من وسام الشهادة. لا أدري ما حلَّ بي كأن سحابةً من صقيع التفّت حولي تكبّلني عن الحراك، على الرغم من ذلك لم أتقاعس وبقيت مهرولاً، فهذا الشهيد المحمول على ظهري أمانة في عنقي أحاول إيصاله إلى أهله سالماً، فالعدو كافر لا يفتأ يفتك أجساد الشهداء إن وقعت بأيديهم، لكن ما هذا الوجه الحسن؟ ربّاه ما أجمله من وجهٍ لا أظنه من وجوه أهل الدنيا، تُرى من أين أتى؟ ولماذا يحدق بي هكذا؟ بلطف أخذ يومئ لي مرحباً أقترب لي، كان الزغب الفضي المتناثر من جناحيه لامعاً قد خطف لبّي وعطّر لمسك خالج فؤادي يذكرني بشذا عطر الحضرة الحسينية المقدّسة حين ميعاد زيارتي عند ليالي الجمع المرتقبة، يا سبحان الله أوجاعي بدأت تضمحل وجسمي لا أكاد أشعر به كأني عصفور مرفرف فوق غمائم السعادة البيضاء. استقبلني المسعفون وأنزلوا الشهيد من على ظهري، فهويت إلى الأرض دون شعور وتثاقلت نبضات قلبي وعجزت عن الكلام تماماً، ناولني أحدهم قدحاً من الماء، نعم كانت أنفاسي متلهفة لمن يخمد لظاها، لكني لم استطع الشرب فسرعان ما اندلقت الدماء من فمي وامتزجت مع الماء، فالشظية التي اخترقت رأسي جواز لانتقل إلى ذلك العالم الفسيح، فتذكّرت سفير سيّدي الإمام الحسين (عليه السلام) مسلم بن عقيل (عليه السلام)، وسلّمت عليه وعلى الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين (صلوات الله عليهم أجمعين)، وأدركت حينها أنَّ الدماء التي كانت تتقاطر على وجهي كانت دمائي، فحمدت الله تعالى أن وهب لي لحظات أخرى كي نكون أنا ورفيقي بين أيادي أمينة. نطق الشهادتين وبعدها حلّق به ذاك الطائر الفضي، عارجاً بروحه الطاهرة إلى العلا حيث جنة عرضها السماوات والأرض أُعدّت للمتقين.