التَّوحِيْدُ الصّفَاتِي
للتوحيد مكانة عليا في الشريعة الخاتمة بل في الشرائع السماوية كافّة، إذ ما من رسول إلّا وتصدَّرت رسالته الدعوة إلى التوحيد ورفض الشرك، قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)/ (النحل36). وللتوحيد مراحل لابدّ للمكلّف من قطعها جميعاً ليكون موّحِداً, وهي:التوحيد في الذات، وفي الصفات، وفي الخالقية، وفي الربوبية، وفي العبادة, ولعدم إمكان التعرّض إليها جميعاً ارتأينا الاقتصار على التوحيد في الصفات. وصفاته تعالى تنقسم على قسمين: فمنها ما يُنسب إلى ذاته ابتداءً بلا توسّط أي شيء كالعلم، والقدرة، والغنى، والإرادة، والحياة وتُسمّى بالصفات الثبوتية الحقيقية، ومنها ما تُنسب إليه بلحاظ ما يصدر عنه من الأفعال: كالخالقية، والرازقية، والتقدّم، والعلّية، وتُسمى بالصفات الثبوتية الإضافية. وقد وقع الخلاف في الصفات الثبوتية الحقيقية بين الأشاعرة وغيرهم في هل أنّها عين ذاته المقدّسة أو غير ذلك؟ بخلاف الصفات الثبوتية الإضافية التي لم يقع فيها خلاف كهذا؛ لأنها صفاتٌ تجري عليه سبحانه تبعاً لمنشأ انتزاعها، فبلحاظ خلقه للخلق اتّسم بالخالقية، وبلحاظ رزقه إياهم اتّسم بالرازقية وهكذا. ولبيان عقيدتنا في الصفات الثبوتية الحقيقية لابدّ من تقديم مقدمة مفادها: إنّ الصفات بشكلٍ عام تكون على قسمين: قسمٌ يلازم تصوّر الموصوف تصوّر الصفة ولا ينفك عنها ولا يمكن سلبها من موضوعها ويستحيل وجوده بدونها، وتُسمى ذاتية وعينية مثل إضاءة النور، وحرارة النار، وظلمة الليل، وضوء النهار، وقسمٌ يمكن سلب الصفة من الموصوف، وتصوّره بوجوده معها أو من دونها، وتُسمى عرضية وزائدة، كحرارة الحديد وضوء القمر، والصفرة من الوجل والحمرة من الخجل. وبقليلٍ من التأمّل في الصفات محل النزاع (العلم، والقدرة، والغنى، والإرادة، والحياة) نقطع بأنّها لابدّ أن تكون ذاتية وعينية ويستحيل أن تكون عارضة وزائدة؛ وذلك لأنَّها لو كانت عارضة على ذاته المقدّسة وزائدة عليها لكان سبحانه محتاجاً ومفتقراً إليها، والاحتياج والافتقار سمة الإمكان وهو (جلّ وعلا) واجب الوجود، وعليه من المحال أن تكون صفاته زائدة، ولابدّ أن تكون ذاتية وعينية. كما أنَّ القول بأنَّ صفاته زائدة على ذاته يقتضي أن يكون سبحانه فاقداً لها ومن ثم اتّصف بها، بمعنى أنّه كان جاهلاً ومن ثم أصبح عالماً، وكان عاجزاً ومن ثم أصبح قادراً، وكان مفتقراً ومن ثم أصبح غنياً، وهكذا! ولدفع هذا الإشكال الذي أوقع الأشاعرة فيه أنفسهم قالوا بقدم هذه الصفات؛ أي أنّها قديمة بقدمه سبحانه!، فوقعوا بما هو أسوأ وهو القول بتعدد القدماء والشرك به سبحانه. وبما أنَّ كلّ ذلك محال عليه سبحانه, إذن يتأكّد أن تكون صفاته ذاتية وعينية لا عارضة وخارجية كما قالت الأشاعرة. وفضلاً عمّا تقدّم فإنَّ الأدلة الشرعية هي الأخرى قد أثبتت عينية الصفات، ففي القرآن الكريم ورد قوله تعالى: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)/ (يوسف:76)، ومن المعلوم في اللغة أنّ (ذي) تدل على المصاحبة والمقارنة، وعليه فإنَّ (ذِي عِلْمٍ) هو (من كان علمه عارضاً على ذاته وخارجاً عنها) وهذا لابدّ أن يكون فوقه (عليمٌ) وهو (من كان علمه صفة ذاته وعين ذاته) وهو الله (عزّ وجل).(1) وأمّا في السنة النبوية فقد روى عن الحسين بن خالد قال: سمعتُ الرضا عليّ بن موسى (عليه السلام) يقول: «لم يزل الله تبارك وتعالى عالماً قادراً حيّاً قديماً سميعاً بصيراً، فقلت له: يا ابن رسول الله إنَّ قوماً يقولون: إنّه (عزّ وجل) لم يزل عالماً بعلم، وقادراً بقدرة، وحيّاً بحياة، وقديماً بقدم، وسميعاً بسمع، وبصيراً ببصر. فقال (عليه السلام): من قال بذلك ودان به فقد اتخذ مع الله آلهة أخرى، وليس من ولايتنا على شيء، ثم قال (عليه السلام): لم يزل الله (عزّ وجل) عالماً قادراً حيّاً قديماً سميعاً بصيراً لذاته».(2) كما رُوي عن الإمام عليّ (عليه السلام): «أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كلّ صفة أنَّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنَّه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه..».(3) ...................................... (1) الميزان في تفسير القرآن: ج11، ص121. (2) بحار الأنوار: ج4، ص62. (3) ميزان الحكمة: ج3، ص1926.