حَقِيقَةُ الإِيمَانِ
لو لم يخلقِ اللهُ (تعالى) جنّةً ولا نارًا لوجبت علينا طاعته؛ شكرًا له على جليل نعمائه وعظيم آلائه؛ إذ إنّ شكرَ المنعم واجبٌ، ولكنّه (تعالى) علاوةً على ذلك فقد بشّرنا بجميل الثواب وحذّرنا من أليمِ العذاب؛ لتركيبةٍ فينا يدعو جزءٌ منها إلى الملذّات وإن كانت محرّمة، والتكاسُل عن الطاعات وإن كانت واجبة، فإن ارتُكِبت الذنوب أشاعَ جزءٌ آخرُ اليأس من رَوْحه (سبحانه) في ربوع النفس، فكان الخوف رادعًا عن مخالفة التكاليف والرجاءُ دافعًا لأدائها والاستغفار والتوبة، وبذا تتّزن النفس البشرية متى ما وازنت بين جناحي الخوف والرجاء، لتحلِّق في أجواء التكامل وترتقي شيئًا فشيئًا. بيدَ أنَّ البعضَ يحاولُ أن ينشرَ ثقافةَ الاعتماد على جناح الرجاء فقط، مُشيعًا أن لا موجب لأداء العبادات كالصوم والصلاة وغيرها، والانتهاء عن المحرّمات كالمسكر والتبرّج، طالما كان الإنسان مؤمنًا به (سبحانه)! وهو تثقيف يُشجِّع على الاستهانةِ بالقِيم النبيلةِ، والتحلُّل الخُلُقي، وممّا يزيدُ من خطورته أنّه يلقى قبولًا واسعًا في عموم الناس، لاسيّما شريحة الشباب؛ لتماشيه مع شهواتهم. وهذه الدعوة ليست بالحديثة على الساحة الإسلامية؛ فقد سبقت في الدعوةِ إليها المُرجئةُ في خصوصِ قولهم بكفاية الإيمان القلبي، وعدم وجوب أداء التكاليف الشرعية مع رجاء رحمته وغفرانه (تعالى)! وهي عقيدةٌ فاسدة واجهها أهل البيت (عليهم السلام) بالتأكيد على أنَّ الإيمان يقوم على ثلاث ركائز: التصديق القلبي، والقولي والعملي، فالتصديق القلبي لقوله (سبحانه): (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات: 14)، والقولي؛ لتنديده (تعالى) بالجاحد لسانًا وإنْ كان مؤمنًا قلبًا في قوله: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ) (النمل: 14)، والعملي؛ لقوله (تعالى): )إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر: 10)؛ إذ (فسّروا صعود الكلم الطيّب [الاعتقادات الحقّة] بقبوله (تعالى) له، وهو من لوازم المعنى، ثم إنّ الاعتقاد والإيمان إذا كانا حقّ الاعتقاد...صدّقَه العمل ولم يُكذِّبْه، أي يصدر عنه العمل على طبقه؛ فالعمل من فروع العلم وآثاره التي لا تنفكّ عنه)(1). ولذا رُوي عن محمّد بن ماردٍ أنّه قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبدِ اللَّهِ الصادق (عليه السلام): "حَدِيثٌ رُوِيَ لَنَا أَنَّكَ قُلْتَ: إِذَا عَرَفْتَ فَاعْمَلْ مَا شِئْتَ، فَقَالَ: قَدْ قُلْتُ ذَلِكَ. قَالَ: قُلْتُ: وَإِنْ زَنَوْا أَوْ سَرَقُوا أَوْ شَرِبُوا الْخَمْرَ؟ فَقَالَ لِي: إِنَّا لِلّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، واللّهِ مَا أَنْصَفُونَا أَنْ نَكُونَ أُخِذْنَا بِالْعَمَلِ وَوُضِعَ عَنهُمْ، إِنَّمَا قُلْتُ إِذَا عَرَفْتَ فَاعْمَلْ مَا شِئْتَ مِنْ قَلِيلِ الْخَيْرِ وَكَثِيرِهِ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْكَ"(2)، ورُوي عنه (عليه السلام): "الإيمَانُ هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَعَقْدٌ فِي الْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ"(3)، وعنه (عليه السلام) أيضًا: "ملعونٌ ملعونٌ مَن قال الإيمان قول بلا عمل"(4). بل (وكلّما تكرّر العمل [الصالح] زاد الاعتقاد رسوخًا وجلاءً وقوي في تأثيره)(5)، وبذا يُشكِّلُ الإيمانُ في حقيقته نظامَ حياةٍ مُتكامِلٍ، وكُلُّ تفكيكِ بين الاعتقاد القلبي والسلوك العملي هو تنكُّبٌ عن الصراط المستقيم، وانزلاقٌ في سبل الضلال ومهاوي الردى؛ ولذا حذّر المعصومون (عليهم السلام) من هذه العقيدة مؤكِّدين على الآباء: "بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة"(6). ......................................... (1) تفسير الميزان: ج١٧، ص٢٣. (2) الكافي: ج2، ص464، ص27. (3) المصدر السابق نفسه. (4) وسائل الشيعة: ج16، ص280. (5) تفسير الميزان: ج١٧، ص٢٣. (6) الكافي: ج٦، ص٤٧.