فَلَتاتُ اللِّسَانِ

خلود ابراهيم البياتي/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 216

قال سيّد البلغاء والمتكلّمين الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): "ما أضمر أحدٌ شيئًا إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه"(1)، ارتأينا أن تكون أسطر هذا المقال تتمحور بشأن تلك العضلة الصغيرة حجمًا، والتي لا تتجاوز بضع سنتيمترات طولًا، ولا يكاد أغلب الناس أن يفقهوا مدى أهمّيتها ودورها في الحياة الدنيا وفي عملية جني حصاد الآخرة، وهو غاية الآمال ومحطّ الرحال في نهاية المسير. لو تتبّعنا قليلًا كلّ حديث أو رواية تتحدّث عن ذلك العضو الذي يرسم خارطة المعاملات مع البيئة المحيطة، ألا وهو (اللسان)، وهنا لا نقصد فقط مع الأشخاص من بني البشر، بل تتعدّى المعاملات إلى كلّ ما يحيط بنا من مخلوقات، وسنتلمّس سوية الأثر والنتيجة من تلك المعاملات، سواء الإيجابية أو السلبية منها، فإنّنا حين نصل إلى مرحلة الإدراك، ستتوالى بعدها المراحل الواحدة تلو الأخرى نحو الإجراءات العملية، التي ننطلق منها إلى أبعد من مجرّد التحليل والتفكير، ولعلّ من أولى الخطوات هي مرحلة التأمّل في الأمور، وهي النظر بثبات والتأكّد ممّا حولنا وما يحدث، وسيقودنا التأمّل إلى التفكّر في الأسباب والأهداف؛ ليضع أمامنا مجموعة من الخيارات المتاحة للعمل بها، ولنتدبّر عواقب الأمور، فنختار الصالح دون الطالح، وننتقي ما نريد من بين كلّ الأضغاث المتراكمة في زوايا الذهن. اللسان، وما أدراك ما اللسان، وإلى أيّ هاوية يمكن له أن يوصلَكَ، وفي الطرف الآخر كم من جمال وراحة بال ستمتلكها عند إمساك اللسان عن لغو الحديث والخوض فيما لا يُسمن ولا يُغني من جوع، وممّا ورد عن الإمام عليّ (عليه السلام) أنّه قال: "رُبّ لسان أتى على إنسان"(2)، فيصل المتكلّم والآخر إلى ما لا يُحمد عقباه، ولعلّنا كثيرًا ما نسمع جملة (لم أكن أقصد)، أو قد يُقال: (فلتت من لساني)، ومن بعدها يبدأ سيل الاعتذار والتبرير وطلب السماح بدعوى أنّ المقابل قد فهِم الموضوع بشكل خاطئ، ولكن لا فائدة من كلّ ما يُقال بعدها، فقد سبق السيف العذل، مثلما وصف الإمام عليّ (عليه السلام) ما يحدث وصفًا دقيقًا لمَن يُضمر أمرًا أو مشاعر معيّنة تجاه أحد ما بأنّ هذا الشعور أو الأفكار ستظهر حتمًا عاجلًا أم آجلًا عن طريق فلتات اللسان، أو صفحات الوجه، وهو ما يتمّ التعبير عنه حديثًا بمفهوم (لغة الجسد)، والتي دائمًا ما يُقال عنها بأنّها من أصدق اللغات التي عن طريقها نقوم بعملية التواصل مع الآخرين، فمهما سعيتَ لتدريب نفسكَ على التحكّم بتعابير الوجه، فلا بدّ من أن يظهر ما تخفيه، ولو كان للحظات سريعة جدًا، وتلك اللحظات كفيلة بأن توصل الرسالة المخفية إلى مَن رآها بأنّ هناك أمرًا مستترًا عن العيان، وهذا من الأمور التي تسبّب القلق والتوتّر لدى الإنسان، حيث إنّه يستمرّ في محاولاته لمنع تلك التعابير من الخروج للعلن، وهنا يقتضي الأمر أن نحاول قدر الإمكان التصالح مع ذواتنا وإيصال مشاعرنا إلى الآخر بأسلوب مَرِن بسيط للتنفيس عمّا يدور في داخل أذهاننا؛ لنتمكّن من العيش بسلام، وبدون الخوف من تلك الفلتات، مثلما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): "لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ"(3)، وعليه فطريق الاستقامة هو أقصر الطرق، وهو بوصلة الهداية، وتجنّب الأذى النفسي لفلتات اللسان. ....................................... (1) ميزان الحكمة: ج4، ص14. (2) المصدر السابق: ج4، ص22. (3) المصدر السابق: ج4، ص18.