رياض الزهراء العدد 177 الحشد المقدس
ذِكرياتُ مُقاتِلٍ مَعَ شَهِيدٍ
بعد انقضاء موسم الصيف، كنّا فرحين بانتهاء موجات الحرّ اللاهبة، مسرورين بهبوب نسمات هواء باردة، لكن لوهلة شعرت بأنّ هذه النسمات أيقظت بداخلي وجعًا لم يمت حين تذكّرت حديثي مع مقاتل من الحشد الشعبي في أيام كهذه من العام الماضي. وكانت روايتي معه حين وصلنا إلى جبهات القتال لمواجهة داعش الإرهابي لاسترداد الأراضي المسلوبة، وجدتُ مقاتلًا جالسًا قرب نار يحتمي بها من البرد، وجلستُ قبالته، فاستقبلني برحابة صدر، وحاول ضيافتي بإبريق شاي وضعه على النار الموقدة، وبنظرة خاطفة لملامح وجه هذا المقاتل الشجاع أحسستُ بوجع مدفون يئنّ بين أضلعه، فسألته: ما لي أراكَ حزينًا؟ فتبسّم ضاحكًا، وطأطأ رأسه، حينها شعرتُ بأنّ الأرض خُسفت به لثقل ما يحمل! ودون أن يشعر، أجابني: أشتقتُ إلى والدتي العجوز، وزوجتي التي تنتظر عودتي، لا أعرف متى سأتمكّن من رؤية زوجتي، وتحقيق ما وعدتها به. فسألتُه: وما هو وعدكَ لها، إذا لم تمانع بالردّ، فقد تملّكني الفضول لمعرفة ذلك. أجابني: وعدتها بالعودة، ومراجعة الطبيب لنرزق بطفل يكون عوضًا عنّي إذا أنا استشهدتُ، ولكنّني تأخّرتُ كثيرًا عن الموعد بسبب الهجمات المتكرّرة والمباغتة من عصابات داعش. دام زواجنا لسبع سنوات بدون أن نُرزق بطفل، وبعد مراجعة الطبيب حدّد لي موعدًا للعملية، لكنّني توجهتُ للقتال، ووعدتها بالعودة وتحقيق أمنيّتها. ربّتُ على كتفه، مطمئنًا إياه: ستعود إلى دياركَ وتقبّل والدتكَ، وتفي بوعدكَ لزوجتكَ. وبدأت خيوط الشمس تتسلّل من سمائنا، وجاءتنا الأوامر بأن نتوجّه بهجوم مباغت لتطهير أراضينا من دنس داعش. وأُمرنا بالبقاء بالثكنة العسكرية، وبأن يتوجّه المقاتلون القدماء للهجوم؛ لمعرفتهم بأوكار الدواعش الأنجاس ومخابئهم. فبقيتُ أنا ورفاقي الجُدد، وذهب محمّد مع زملائه للهجوم، صافحني مودّعًا إياي. فبادرتُ بالاتّصال بطبيب صديق لي؛ لمساعدة هذا المقاتل البطل، ومثلما توقّعتُ رحّب به وقال لي بالحرف الواحد: على الرّحب والسعة، أنا في خدمة الأبطال. فتمنّيتُ أن تنطوي ساعات هذا اليوم سريعةً لأخبر محمّدًا بهذا الخبر السعيد، وبدأت عيوني تترقّب طريق عودة الأبطال بعد تطهير أراضينا من دنس داعش. وبعد ساعات طويلة من الانتظار عاد جنودنا الأشاوس، وكان الإعياء والتعب قد أخذ منهم كلّ مأخذ، وبدأت عيناي تبحث عن محمّد من بين الرفاق، إذ لم أرَ محمّدًا بينهم، وهرولتُ نحوهم وقلبي يدقّ بسرعة مجنونة بين أضلعي. وانتظرتُ حتى قدوم آخر مقاتل، وعدتُ أدراجي سائلًا المقاتلين: أين محمّد؟ فكان الردّ: استشهد محمّد بكلّ بسالة غير مبالٍ بالموت، لم يعد محمّد، ولم يفِ بوعده لزوجته، لكنّه كان وفيًا لوطنه، وفيًا لمذهبه، مضحيًا بالغالي والنفيس. محمّد لم يمت، ولم ينقطع ذكره في الأرض، فالشهداء خالدون يذكرهم جيل تلو جيل.