"زَهرَةُ المَلكُوتِ"

رجاء محمد بيطار/ لبنان
عدد المشاهدات : 208

كثيرًا ما يتحيّر القلم، وتتلجلج الأنامل مع نبضي المتثاقل، حينما أطلّ بفكري المتسائل، وأشرئبّ بعشقي المتواصل لمثالٍ من أمثلة الحديث القائل: "مَثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح, مَن ركبها نجا, ومَن تخلّف عنها غرق"(1).. لكن ما أواجهه الساعة من حيرةٍ وتقلقلٍ هو فوق ما اعتدته مع طرقي تلك الأبواب العليّة، فوقوفي على باب حضرة الأمّ الزكية، يبعث في ذهني وفؤادي عاصفةً، بل إعصارًا من المشاعر القدسية، وكيف لا يفعل؟! وصورتها تتراءى لي بهالة طهرٍ نورانية، وهي الحوراء الإنسية، بضعة نبيّ الرحمة منقذ البشرية، ونفسه التي بين جنبيه، ولبّ فؤاده المشتمل عليه، وسرّ أسراره وحاملة أنواره، وريحانة داره والراقدة بجواره، التقيّة النقيّة الراضيّة المرضيّة... يرتمي القلم عاجزًا منكسرًا دون انكسار ضلوعها المستترة، ويخفق الفؤاد واجفًا مُعتَصرًا دون فؤادها الذي جلدته آلام الفقد والجحود ونكران العهد، وتدمع العين وتتوالى الأنفاس دون عينها المحمرّة التي لطمتها كفّ الأرجاس، وفاضت بعبرة الإحساس؛ لتكفّن بشعاعها المنتثر جسم خير الناس. وتتطلّع الروح إلى ذلك النبراس، فتنتعش شيئًا، وتحيا وتنفض عنها غبار الهموم المتراكمة، حالما ينبثق من جانب الطور الأيمن ذاك النور الأنور، ويتألّق جبل فاران مزهوًّا بولادة "النسلة الطاهرة الميمونة"، والدة النسل الطاهر الميمون. ينسكب شعاع الوحي ما بين السماء والأرض، ويهرع الروح الأمين ليظلّل الصادق الأمين بسحابةٍ من نورٍ مبين، مهنّئًا مباركًا مبشّرًا، مقرئًا النبيّ السلام من ربّه الرحمن، مشفوعًا بآياتٍ من رفيع البيان، تزدهي بها منائر القرآن: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (الكوثر: 1). أيّ هناءة روح هذه، وأيّ اصطفاء؟ يشفي سقم الأرواح ويبلسم الوجدان بالصفاء! أيّ فوح جنانٍ قد غدا يلفّ الأرض ويمتاح السماء! أن يولد خاتم الأنبياء، فتلك أرقى قمم الثناء، أمّا أن تولد له بنتٌ لا يماثلها مولودٌ من ذكرٍ أو أنثى على وجه الأرض، سوى سيّد الأوصياء، فذاك مبدأ الخير ومنتهاه، وكيف لا تكون؟! وهي مصبّ النبوّة ومنبع الإمامة، على وقع خطاها تنبض القلوب، وخلفها تنهج على الصراط المستقيم باشتياقٍ دؤوب، وفي وهج مشكاتها تبحر أشرعة الهدى، وتعتزّ الأفئدة بارتشاف ذاك الندى، فللّه العزّة جميعًا، وإليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه أبدًا!... وردةٌ نثرت عطرها على الكائنات، وتماهى بصفاء نورها الطهر والصبر والثبات، ومثلما أنّ عمر الورود قصير، فقد رحلت ذات ليلٍ حسير، لتضمّ بضلعها الكسير جنينًا أفلتَ منه، ولتكون شاهدًا أبد الدهر على عداوة الإنسان لروحه، وعلى أنّ أهل السماء لا يهنؤون إلّا في رحاب الجنان، وأنّ الأرض لهم هي ممرّ يشعشعون فيه كما خيوط الفجر الأولى، ليزيحوا الستار، ويميطوا اللثام عن وجه الشمس، عساها تتألّق أكثر. أمّ الأئمة، مستودع السرّ الأعظم لحياة الأمّة، صدّيقة آل الله، وسيّدة النساء بلا منازع، إذ لم يشهد التاريخ مثلها امرأةً وطفلةً وأمًّا وابنة، فهي جوهر لا يتكرّر، وقد تقارِبُ قدسَها نفوسٌ زكيّة، وتليها في الطهر والعطاء والمناقب القدسية ابنتها زينب الحوراء (عليها السلام)، ونساءٌ طِفنَ في فلك قبّتها الزهراء، ولكنّها تبقى فريدةً في سرّها، وحيدةً في شكرها وصبرها وطهرها وذكرها، فهي زهرة الملكوت التي التقت فيها أنوار الإمامة والنبوّة، لينبثق عنهما شعاع الصفوة، ويهتدي بها وبنسلها البشر بعد ضلال، فيستقيمون بعد انحرافٍ، وينهضون من كبوة الأوحال، ليتطهّروا بكوثرها الزلال، وينطلقوا خلف سراج الآل، وهي التي من رحمها وفؤادها ونبضها انبثقت أنوار الهداة، بعدما اقترنت بنور المرتضى، فغدت به ومعه مشكاة الهدى، وغدا بها ومعها أبًا لنسل المصطفى المختار، فنِعم الأبوانِ، وتبارك الله الملك الحقّ المبين على ما هدى واجتبى، وبه نستعين. .................................... (1) ميزان الحكمة: ج6، ص9.