أَدَقُّ آلَةٍ مُتَطوِّرَةٍ

مريم حسين العبودي/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 395

إنّ حظوة اللغة العربية تكمنُ في سِعة التعبير، وحُرية الوصف الذي تفتقرُ إليه اللغات الأخرى، فبينما يُمكن التعبير عن معنىً واحد بعشرات الجمل في اللغة العربية، لا يحتمل هذا المعنى سوى صورة واحدة في لغاتٍ أخرى. إنّ اللغة العربية هي أطول اللغات عمرًا، وأثراها لفظًا، وأقدرها على النموّ اللفظي والدلالي؛ لما تتحلّى به من مزايا فريدة، فإنّ بوسعها أن تُعبّر عن المفاهيم العلمية والعملية المتجدّدة، وتواكب التطوّر المتدفّق باستمرار. حافظت اللغة العربية على وجودها، وسادت أقطارًا شاسعة في الشرق والغرب، وهكذا أصبحت اللغة العربية لغة عالمية بعد انتشار الإسلام في الآفاق، وبسبب نزول آخر معجزة في الأرض وهي القرآن الكريم الذي أُنزِل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله). حرص الأدباء والشعراء على مرّ العصور على التنافس في إبراز ملكات اللغة عندهم بأكثر الطرق ذكاءً وعبقريةً، فكانت الجهود مستمرّة في محاولةٍ لترسيخ أسمائهم في التاريخ، فها هو (أبو الطيب المتنبي)، أحد كبار شعراء العربية الذي قيل فيه ما لم يُقل في غيره، ظلّ شِعره محور تفسير وشرح على مدى قرون، لما ينطوي عليه من ابتكارات وغوامض تنكشف تباعًا بحسب بحوث الدارسين له، والكاشفين عن أغوار عوالمه الشعرية. له بيتُ شعرٍ يُضرب مثلًا في نبوغه، يقول فيه: "عِش اِبقَ اِسمُ سُدْ قُدْ جُدْ مُرْ اِنهَ رِفْ اِسرِ نَلْ غِظْ اِرمِ صِبْ اِحم اِسبِ رُعْ زَعْ دِلْ اِثنِ نُلْ"(1) وقد استخدم المتنبي أفعال الأمر وحدها في البيتين الأول والثاني، موجّهًا كلامه لعضد الدولة بأسلوب الأمر، وليس المقصود الأمر، بل المقصود الحثّ على فعل المكارم، فكلّ المعاني التي أراد إيصالها المتنبي هي المعاني التي تغنّى بها العرب، وعدّوها من الفروسية. ولقد فاقت آيات القرآن الكريم كلّ فنون اللغة من الشعر والنثر بلاغةً، وتعدّ الأسمى قيمةً لغويًّا، لما يشتملُ عليه القرآن الكريم من البلاغة والبيان والفصاحة. وللقرآن الكريم تأثير وفضلٌ كبير في توحيد اللغة العربية وآدابها وعلومها الصرفية والنحوية وتطويرها، ووضع حجر الأساس لقواعد اللغة العربية، إذ يُعدّ المرجع الأضخم والأساس لكلّ إساهمات نوابغ اللغة العربية، وعلى رأسهم (أبو الأسود الدؤلي)، و(الخليل بن أحمد الفراهيدي) وتلميذه (سيبويه)، وغيرهم. وقد بيّن القرآن الكريم ما أصاب العرب عند سماعهم آياته لأول مرّة لشدّة ما فيها من الإعجاز ما لا يقدر أن يأتي به بشر، على الرغم ممّا كان عليه العرب في ذلك الزمن من النبوغ في اللغة، فبعضهم وصف النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) بأنّه شاعر، فأنزل الله تعالى: (ومَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِين) (يس: 69). وبعضهم قال إنّ النبيّ محمّدًا (صلّى الله عليه وآله) قد نقل هذا الكلام ممّن سبقوه، فيقول الله تعالى في محكم آياته: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا) (الفرقان: 5) بينما اتّهم بعضهم النبيّ محمّدًا (صلى الله عليه وآله) بأنّه ساحر، إذ يقول الله تعالى: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ) (يونس: 2). فلنا الفخر أنّنا ناطقون بلغةِ الضادّ، اللغة التي لا تنافسها لغة في الجمال والأصالة، وتستحقّ منّا الاهتمام بها والحرص على ديمومتها؛ كي تبقى زاهرةً لا يندثر منها شيء. .............................. (1) ديوان المتنبّي: ج3، ص213.