رياض الزهراء العدد 177 ألم الجراح
نَوافِذُ الرَّحِيلِ
أنتِ يا سامرّاء.. وطنٌ دافئ لأوجاعِ السماء، يحتوي ذاتنا المذنبة، وضعفنا.. ويحتوي أحلامنا المعلّقة البعيدة، التي يكون الوصول إليها ملبّدًا بالشَّوك والصعاب.. وينتشلنا من أحزان، الزَّمان وآلامه.. أنتِ ذلك السكون المطمئنّ الذي يعمّ الزخم المتراكم في دواخلنا.. يحتضننا بكلِّ حبّ وطمأنينة.. وبين أروقة سكونكِ المطمئنّ هناك ضجيجٌ؛ ليله هائم جريح.. يئنّ في سريرته أنّة خفية لسيّدة جليلة من نساء نقيّات العهد والوفاء.. كلُّ أعين النَّاس بها منبهرة، ضاعت ملامحها السمحة من كثرة البكاء.. تهيم في سرمدية المتاهات.. يأكل الحزن تلك العيون الشَّاخصة المترقّبة.. إلى أبعد مدى لأملٍ بعيدٍ يتراءى نوره بعودة ذلك الحبيب، ابن الزهراء (عليها السلام)، وأولادها الأربعة تبكيهم شوقًا مكلّلًا بالرجاء في ساعات الغروب.. تجد فيه طيب المذاق، وبلسمًا لجراحها وترياقًا.. وآهاتها مكبّلة بشجون السهر تناجي الرب بين طيَّات سقم الجسد.. تجلّدت بالصبر والاستغفار.. تلوذ بترانيم الدعاء نحو الأفق بنظرة الملهوف لوجوه الأحبّة.. التي فارقتها بآهات البُعد.. أحبّة تَرَكُوا خلفهم أحاديث لم تكتمل.. وغصّة في القلب لن تزول.. اختفوا بين جموع الملائكة الصافّين لاستقبالهم.. حلّقوا حيث البعيد، قاموا إليه في سكون ويقين.. لم توقفهم نداءات كثيرة، وحدهم مَن رأى رايات الوداع.. وأخلفوا مواعيد الإياب.. لم ينظروا خلفهم، ولم ينطقوا؛ كانوا في شغل عن حياة فانية.. تدعوهم الآخرة السرمدية.. نظرة تبلّل أعماق ذاكرة أوراقها المبعثرة بين ظلام الظلم وصمته.. تعلِّمنا تلك الرمقة الحزينة نقاء الشوق والعشق وضياءهما الذي يملأ الشعور برحيقه العذب.. كانت تلك أمّ البنين (عليها السلام) في حزنها المباح.. تستذكر في آخر لحظات حياتها كيف كانت لحظة؛ أعلنوها نبأ الفجيعة.. ليعود ألم كسر جناحها يعاودها.. رئتها امتلأت بشهيق الفقد، وانطفأت شرفة أحلامها.. عندما خلع القمر عباءته المنيرة؛ ليتسربل كونها بالسواد.. نطق نجمها، موعودة أنتِ بالغياب يا فاطمة.. واليوم حان موعد اللقاء الذي طالما انتظرتِه.. لتهبّ نسائم عطر روحكِ النقية؛ تدقّ نوافذ أعتاب سامرّاء.. آن الأوان، وصاح الأذان.. لتغادر روح أمّ البنين العطشى لنور الحسين (عليه السلام) جنينًا في رحم الموت.. دنيا الفراق إلى دنيا اللقاء.. ليُكتَب لتلك العظيمة ميلاد جديد بمداد مجيد.