فَكُّ الارتِبَاطِ

خلود ابراهيم البياتي/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 191

كثيرًا ما نسمع عبارات تتناقلها الألسن، وتسطّرها الأنامل بشتّى الوسائل الممكنة، وتضجّ بها الصدور فتظهر بصورة سلوكيات معيّنة قد يألفها ويتقبّلها البعض، بينما ينفر منها ويستهجنها البعض الآخر، إذ يعدّها أعلى درجات الضعف والخضوع، ومن تلك العبارات ما يحمل في طيّاته شدّة الارتباط والتعلّق الذي لا يمكن من دونه إكمال الحياة بصورة طبيعية، مثل ما نلاحظه من علاقة الأمّ بأطفالها، والارتباط الشديد جدًا الذي يصل في بعض الأحيان إلى مرحلة التملّك، حيث لا يمكن لها أن تتخيّل ولو للحظات بسيطة بُعدها عنهم، ولا تتمنّى العيش بدون رؤيتهم أمامها أو سماع أصواتهم. ومن أبرز ما يخلّفه التعلّق المذكور في حياة الطفل هو عدم القدرة على التواصل والتعامل مع الآخرين، بل يصل الطفل إلى شفا حفرة من الانهيار في دائرة تردّي مستوى الثقة بالنفس التي تشبه الدوّامة الجارفة إلى الضياع إن لم يتمّ استدراك خطرها وتحطيمها قبل أن تضيق أكثر وأكثر؛ لتُنهي الحياة الاجتماعية والتطويرية لمَن يقبع بداخلها. التعلّق السلبي يُلقي بظلاله أيضًا على الشخص المُتعلِّق ذاته، حيث يرسم كلّ تفاصيل حياته داخل إطار وجود الآخر، فكلّ حركاته وسكناته، أهدافه وأحلامه لا يمكن له أن يتخيّلها بمعزل عن الطرف المتعلّق به، ومن ثمّ يصبح مقيَّدًا لا يقوى على الحراك بأيّ طريقة كانت. وقد يتساءل البعض: هل التعلّق مقتصر على الأشخاص فقط؟ الجواب: لا، فمن الممكن أن يكون التعلّق بأشياء قد لا نتخيّلها، كالملابس، الأدوات، الدفاتر، والكثير من الأمور، فيكون الباب مفتوحًا على مصراعيه لكلّ ما يخطر على البال، بل من الممكن أن يتفاقم الوضع ليصل بالشخص إلى مرحلة تسمّى بـ(الاكتناز القهري)، وهو الإفراط في تكديس المقتنيات وتجميعها، وصعوبة اتّخاذ قرار التخلّص من الممتلكات الشخصية غير الضرورية، حيث يراها الفرد مهمّة جدًا، ولديه ارتباط وثيق بكلّ تفاصيلها الدقيقة، ويشعر بالانزعاج بشكل كبير ممّن يقترح عليه التخلّص من تلك المقتنيات. مشاعر التعلّق هذه التي تُترجم على أرض الواقع بسلوكيات مختلفة مثلما ذكرنا، تجعل الشخص دائم التوتّر والقلق على ما تمّ جمعه في مكان ما، فكلّ شيء في هذه الدائرة والتي تشمل الإنسان أيضًا يخضع للقوانين ذاتها، وفي المستقبل سيكون هذا الفرد عنصرًا متردّدًا لا يملك القدرة على اتّخاذ القرار المناسب في المواقف التي تحتاج إلى الإرادة والقوّة في اتّخاذ القرار الصائب في حينه، لذا يجب على كلّ مَن يتصدّى لموضوع التربية أو يستطيع تقديم النصح والإرشاد فيها أن يؤكّد على أهمّية فكّ الارتباط، وبيان أهمّية بناء الفرد الواثق من نفسه الذي يستمدّ تلك الثقة من الله سبحانه وتعالى، بحيث تكون قاعدةَ البناء في الأسرة لوضع اللبنة الأساس في المجتمع، فتضع الأمّ في الحسبان أنّ الطفل الصغير لا بدّ من أن يكبر بحول الله وقوّته، ويتسلّح بالعلم النافع؛ ليكون مصداقًا لقول الإمام عليّ (عليه السلام): "خيرُ الناس مَن نفع الناس"(1)، وأنّ المراحل الطبيعية للحياة تتوالى ليجتاز الطفل السلّم فيصبح فردًا له أهدافه وأحلامه وطموحاته في تكوين عائلته الصغيرة، فيكون الامتداد طبيعيًا. فكّ الارتباط من الخطوات المهمّة جدًا في تربية الطفل في أثناء سنواته الجميلة؛ لبناء راحة نفسية ومتابعته مع الشعور بالأمان والاطمئنان؛ من أجل اجتيازه المراحل العمرية بسعادة، بدون أن تخيّم مشاعر الحزن والقلق من انفصال الأشخاص عن العائلة؛ لنحصل على مجتمع متآلف قويّ يحمل في طيّاته الخير والتطوّر عن طريق سلسلة التعلّق المعقول لنثر كلّ صنوف الحبّ والسعادة للجميع. ............................ (1) ميزان الحكمة: ج ١، ص ٨٤٥.