رياض الزهراء العدد 181 الحشد المقدس
الحَقِيبَةُ الوَردِيَّةُ
لم يكن أبي مثل سائر الآباء، عاش أبي شهيدًا ليموت شهيدًا، عيش الشهداء هو عيش المبادئ في الأرض، قدّيس يخطو على ثراها، تحوطه هينمات الملائكة أينما حلّ. وحينما هبّ أبي ملبّيًا نداء المرجعية، ودّعني بكلمات لن أنساها ما حييتُ: - إنّ مهمّتي في تلبية نداء الدفاع تمهيد لتحقيق العدل الالهي في إمامنا الموعود (عجّل الله فرجه)، كوني على قدر تمهيدكِ في هذه المرحلة، اهتمّي بأمّكِ وإخوتكِ في غيابي، وتفوّقي في دراستكِ، وإن احتجتني فاستغيثي بالإمام المنتظر، فإنّه أبونا الحنون. مرّت الأيام والشهور من دون أن أسمع صوت والدي عبر الهاتف، فالشبكة في الموصل شبه معدومة، إضافة إلى أنّ هاتف أمّي خالٍ من الرصيد دومًا، فنقودنا لا تكفي لسدّ رمقنا، فضلًا عن هذه الأمور الثانوية. كنتُ دائمًا أناجي إمامي (عجّل الله فرجه) في جوف الليل البهيم حينما يجتاحني الشوق لأبي ويزداد الحنين، أحيانًا كنتُ أرى أبي في المنام، وفي أحايين أخرى يتّصل بنا هاتفيًا، ولا أنسى أبدًا اتّصاله الأخير، حين بكيتُ عند سماع صوته، وكان صوت إطلاق النار يمنعني من سماعه بصورة جيدة، لكنّه طمأنني بأنّه في ساحة التدريب وليس في ساحة المعركة، فاطمأنّ قلبي وطلبتُ منه أن يشتري لي حقيبة مدرسية وردية اللون؛ لأنّ حقيبتي تمزّقت، فوعدني بأنّه سيجلبها عند مجيئه بعد ثلاثة أيام. لم تمضِ سويعات حتى طُرِق الباب، ففتحه أخي ووجد رجلًا لا نعرفه، بيده حقيبة مدرسية وردية اللون، يسأل عن أمّي، لاحظتُ عَينَيْ أخي وقد اغرورقتا بالدموع، ناداني ليحتضنني، بكى وتلعثم قليلًا، ثم قال: خذي، هذه هدية أبيكِ يا فاطمة. فقلتُ للرجل الغريب: كيف وصلت الحقيبة من الموصل إلى بابل بهذه السرعة؟ ثم أين أبي؟ لقد أخبرني بأنّه سيجلبها عندما يأتي بعد ثلاثة أيام؟! أجابني الرجل وبالكاد أسمع صوته: أنا لم أرَ أباكِ مطلقًا، إنّه رفيق أخي في سوح الوغى، وقد أوصى أبوكِ أخي بأن تصلكِ الحقيبة الوردية الليلة؛ كي تذهبي بها إلى المدرسة غدًا، فاتّصل بي أخي لننفّذ وصيّة أبيكِ الأخيرة وهو في ساحة المعركة حينما حَمِي الوطيس واشتدّت المواجهة، كأنّه يعلم بما سيحصل له. من فرحتي بالحقيبة لم أفقه معنى (وصيّته الأخيرة) حقّ الفهم، وإنّما فهمتها من صراخ أمّي واسترجاعها، فتمسّكتُ بحقيبتي الوردية، وعشتُ على أمل تحقيق حلم أبي بتفوّقي الدراسي، وتمهيدي لظهور الإمام المهديّ (عجّل الله فرجه).