مَولِدُ الجَبَلِ

آيـات مالك الخطيب/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 236

القِصَصُ الفَائِزَةُ في المُسَابَقَةِ القِصَصيَّةِ: أَضوَاءٌ على حَياةِ نَائِبَةِ الزَّهراءِ (عليها السلام) المرتبة الأولى: مَولِدُ الجَبَلِ في الطرف الشرقي لمسجد كبير كان يؤمّه العديد من الناس لغرض العبادة، انزوى في ذلك الركن منزل متواضع بجدرانه وأرضيّته، تبدو على ملامحه الزهد والبعد عن الدنيا وزينتها، اكتفاءً بعيش حياة البسطاء وليس بخلًا. بابه مصنوع من الساج والعرعر، وقد أُثبت فيه غصن تُعلَّق عليه الثياب، وعلى أرضه بساط من جلد كبش، وفي حجرة مملوءة بعبير الجنّة استلقت سيّدة دارها على بساط من أوراق الشجر، واتّكأَت على وسادة صُنعت من جلد الجاموس قد حُشيت بنبات الأذخر زكيّ الرائحة. كانت السيّدة شديدة الوقار والهيبة، مِلءُ عينيها نظرات حبّ ورحمة، ويداها الناعمتان تتهيّآن لحمل رضيعتها الصغيرة بشوق. بدا الجميع متلهّفًا لسماع تلك الصرخة الصغيرة التي ستكبر لتُصبح ذات يوم أقوى صرخة في وجه الظلم والظالمين. لم يدم الانتظار طويلًا حتى انتهت لحظات المخاض، فـتهلّلت الوجوه واستبشرت الأنفس وشُرحت الصدور بولادة النور، إنّها الحوراء الطهور. أقبلت البنت الأولى بعد أخويها الحسن والحسين (عليهما السلام). أضاء المكان بنورها، وامتزج عبير دار الرحمة بطيب عبقها حتى بات الأريج يفوح في أرجاء الدار. بدت علامات السرور والفرح جليّة على وجنتي والدتها وهي تضعها على صدرها الحاني، قبّلتها على جبينها بلهفة، ثم لفّتها بثيابها جيدًا لتسلّمها لوالدها أمير المؤمنين (عليه السلام)، الذي كان ينتظر في الغرفة المجاورة وهو جالس على قطعة من الحصير. قد أرخى رأسه إلى الجدار وإلى جانبه كوز ماء من الفخّار الأخضر عُلّقت بقربه قِربة من الجلد لنقل الماء، وهنالك ساتر صوفي يفصل بينه وبين حجرة أخرى. مرّت دقائق حتى بان صوت الزهراء (عليها السلام) تطلب منه رؤية الصغيرة وتسميتها. _ تفضّل أذّن في أُذني صغيرتنا يا أمير المؤمنين وسمّها. _ بسم الله، ما شاء الله، تبارك الرحمن، حفظكِ الله يا بنتي. اعذريني يا ريحانة طه، ما كنتُ لأسبق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بتسميتها، فإن عاد من سفره سمّاها. وهنا اعتذر والد الصغيرة عن إطلاق اسم يناسبها، فهو يرى أنّ هذه الوليدة ليست مجرّد طفلة، وأنّ اسمها لن يكون اسمًا عاديًا، كيف لا وهي بنت ريحانة مَن عُرِج به إلى السماء، فانتظر أمر نبيّ الأمّة إكرامًا وإجلالًا، ليُقدم على هذا الأمر عند رجوعه. وهكذا توالت الأيام ومرّت دون أنْ يُخَصّص للصغيرة اسم لتُنادى به. إلى أن عاد الجدّ من سفره، فلمّا عاد سيّد الكونين أفاض بضيائه على دار ابنته. استقبله صهره بكلّ حفاوة، فدخل بيت ابنته وهو يمشي مُقبّلًا لها كأنّه ينحدر من صَبب. فبشّره صهره بالمولودة الجديدة، فسأله النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عن اسمها، فأجاب: _ ما كنتُ لأسبقكَ بهذا يا نبيّ الله. فتبسّم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قائلًا: _ وما كنتُ لأسبق ربّي بتسميتها يا عليّ. ثمّ نادى ابنته : _ يا بُنيّة إيتيني بابنتكِ المولودة. فأحضرتها وهي تحملها برفق وقد لفّتها بقماش أبيض وقدّمتها لوالدها، فأخذها وحملها برويّة ليغدق عليها حبًّا وعاطفة، فشمّها وضمّها إلى صدره كأنّه يحاول حمايتها من شيءٍ ما. فجأةً تغيّرت ملامحه الباسمة الفرحة عندما كان يداعبها ويناديها: (زينب)؛ لتتحوّل حكاية عينيه السعيدتين إلى دموع تسيل على وجنته الطاهرة. شعرت الزهراء (عليها السلام) بأنّ شيئًا ما قد أَلمّ بأبيها، فما سرّ هذا الحزن بعد تباشير الفرح؟ وازداد قلقها عندما رأته واضعًا خدّه على خدّ حفيدته وبدأَ بالبكاء الشديد، فاختلطت دموعه بشيب محاسنه الكثيفة. تسلّل القلق إلى أجواء الموقف، بادرت فاطمة (عليها السلام) بالسؤال: ممّ بكاؤكَ؟ لا أبكى الله عينيكَ يا أبتاه! احمرّ وجهه الأبيض وتدلّى العرق من وجهه كأنّه اللؤلؤ وهو يقول لها: يا بنتاه يا فاطمة، إنّ جبرئيل قد حضر عندي وأنبأني بقوله: _ يا رسول الله، إنّ ربّكَ يقرئكَ السلام ويقول: يا حبيبي اجعل اسمها زينب، فتبسّمتُ فرحًا واستبشرتُ بها، ثمّ أنبأني أنّ حياة هذه البنت سوف تكون مقرونةً بالمصائب والمتاعب، من بداية عمرها إلى وفاتها. وستُبلى ببلايا وترد عليها مصائب شتّى ورزايا أدهى. يا بضعتي وقرّة عيني، إنّ مَن بكى عليها، وعلى مصائبها يكون ثوابه كثواب مَن بكى على أخويها. في السنة السادسة للهجرة وفي اليوم الخامس من جمادى الآخرة تحديدًا، عمّ الحزن أرجاء البيت العلوي الفاطمي الطاهر بدلًا من الفرح بشجىً يعتصر القلوب لما سيؤول إليه مصير هذه المولودة التي ستكبر لتصبح ذات يوم حاملةً رسالة الخدر وراية الإصلاح، وتكون أكبر وجه إعلامي يردّ الطغاة، ويصدح بالحقّ ونصرة المظلوم. ستخطّ من دموع والدتها سطورًا تكتب لآلاف السنين عن فصاحتها وشجاعتها وعفّتها بوقوفها في مجالس الجبابرة وهي تدافع عن أيتام أخيها. تكون قدوة لنساء العالم على مرّ الأجيال؛ ليُحتذى بها وهي تسير على خُطى والدتها سيّدة النساء (عليها السلام). إنّها الجبل الذي وُلد اليوم ليكون مثالًا للصبر والجَلَد. إنّها زينب! أجل، إنّها زينب الحسين (عليهما السلام).