الإِرْثُ الزَّينَبِيُّ

منتهى محسن محمد/ بغداد
عدد المشاهدات : 129

المرتبة الثانية: الإِرْثُ الزَّينَبِيُّ كنتُ رفيقتها التي لم ولن تفارقها في كلّ محطّات حياتها، كانت تمسكني بيديها بشدّة، فألتفّ على جسدها بفيض مودّة ومحبّة، وأرافقها في أصعب المواقف وأكثرها حلكة، وفي رحلة السبي والأسر اهترأ نسيجي واغبرّ لوني، لكنّها لم تفلتني عن رأسها الشريف قيد أنملة. كنتُ قريبة منها إلى الحدّ الذي أستشعر مكامن الوجد الذي يملأ قلبها تجاه إخوتها، وأحسّ بكمّ الأحزان التي تكتنفها خوف فقدانهم، وأرقب انهمار دمعها المدرار وهي تتلقّى شهداء النهضة واحدًا تلو الآخر . أمّا بعد ليلة العاشر من المحرّم، فقد أصبحت تتمسّك بي أكثر من العادة، فعندما أرخى الليل سدوله، ووضعت الحرب أوزارها، وغاب عن وجه الحياة توأم روحها، وانخسف قمرها، خرجت ليلًا تأتزرني وتلتحفني بحذر. وهناك في رحاب تلك الأرض المخضّبة بحنّاء الشهادة، انكبّت على الجسد الشريف تقبّل موطئ الإباء، وموضع الـ(لا) الرافضة، وحالما أصبحت قاب قوسين أو أدنى من جسد بلا رأس وحضن بلا أيدٍ، لم تنتزعني من رأسها لهول الصدمة، ولم تشقّ جيبًا على أثر النكبة، ولم تشمت بها الأعداء من عظم الفاجعة المروعة، بل تركت دموعها تردّد ألحانها الشجيّة ببكاء الدعاة والرساليين. كنتُ رفيقتها في تلك الأيام المشحونة، أراقب زفراتها وأنينها، وتحشرج صوتها أمام النساء المنكوبات، وأرى صمودها وشموخها وصبرها الجميل قبالة مرتزقة بني أميّة. كان صمتها ذكرًا، وكلامها شكرًا، وسكونها صبرًا، وقد شقّت طريق السبي من كربلاء حتى الكوفة بإرادتها الفولاذية، وعبّدت درب الأحرار بوازع حسّها النضالي، واستكملت شرارة النهضة، وقادت ثورتها الإعلامية العارمة رغمًا عن أنوف الظالمين والمردة. كنتُ أتلفّتُ معها في كلّ حين في مسار الدرب الشاقّ متفقّدةً بنات الرسالة، وقد أخذت بتلابيب حجابهنّ تسوّي لباس هذه، وتقوّم عباءة تلك، وفي ذلك المسير الموحش وقع سوط أحد الأوغاد على رأس إحداهنّ، فشجّ خمارها، فلاذت بعمّتها باكية: - عمّتي لقد تمزّق خماري! أدركيني قبل أن يُهتك حجابي. - تعالي يا قرّة العين، سألبسكِ هذه الخرقة تحت العباءة؛ كي تُستري بها عن أنظار الكفرة الفجرة. - أين حُماتنا؟ أين رجالنا ليحاموا عنّا؟ - لقد نامت عيون حماتنا، إلّا أنّ عين الله لا تنام، نصبر على بلائه فيوفّينا أجور الصابرين. كنتُ أراقب سيماء وجهها الصابر وهي تخطب في الكوفة وقد أمسكتني بيدين واثقتين، وصبّت جام غضبها تقريعًا على الجناة المارقين، غير عابئة بجموع الحرس وسيوف غلّهم الدفين، كنتُ أشعر بحرارة أنفاسها المؤمنة التي تعادل جهاد كلّ الأنبياء والمصلحين. وفجأة توقّف الركب، وتفحّصت الفاطمياتُ عيني عمّتهنّ التي وقفت هي الأخرى مندهشة لهذا الوقوف المباغت: - عمّتي! هل تتوجّسين سوءًا من هذا التوقّف؟ - لا تخافي صغيرتي، إنّ الله معنا وهو حامينا وهو خير حافظ . - إنّه اليوم الثالث لتوقّفنا، اسمع همهمةً بين الحرس وأخاف أنّ هناك مكيدة تُعدّ لنا . ـ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَىٰنَا(1)، لو اجتمع الإنس والجنّ على ضرّنا فلن يصلوا إلينا بسوء، فاطمئنّي بنيّتي. تحرّك الركب من جديد وسرعان ما تعالى صوت الطبول من بعيد، وبانت ألوان الزينة على مظاهر المدينة، وعلت الزغاريد بقدوم الخارجين على إرادة السلطان تشفّيًا وانتقامًا، فالتصقت الصغيرات بعمّتهنّ باكيات مذعورات، وهي توصيهنّ بحجابهنّ وتطمئنهنّ بذكر الله. ولم تنتهِ رفقتي معها إلى هنا، بل امتدّت عبر رفقة كلّ زينبية تنتمي إلى الخطّ القويم، وتضعني على رأسها تاجًا وفخرًا وهويّةً. (1) التوبة: 51.